Culture Magazine Thursday  08/03/2012 G Issue 366
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الآخر 1433   العدد  366
 
دفتر العزلة
1 - فاطمة!
جارالله الحميد

 

(1)

ليومين ظللت نائما كالذبيح. كان نوما مختلطا باليقظة والغيبوبة والألم. لم أكن أتوقع أن ذلك سيحدث وأنا الذي ظننت أنني سأقضي أياما خارج غرفتي التي اعتزلت العالم فيها منذ سنتين أو ثلاث. بعد أيام استيقظت فرأيت نفسي مسجّى على السرير وحالا عرفت أنني لا بدّ في مستشفى، ولم أنهك نفسي بأسئلة تافهة مثل أين أنا؟، ماذا حلّ بي؟!، تلك أشياء تعلمت من سنوات المرارة والوجع عدم جدواها. كنت هادئا ومطمئنا وملّحا في طلب الماء إلى حدّ أن الممرضين كانوا يقولون إذا مرّوا بجوار سريري يقولون بشماتة (لن يُسمح لك بشرب الماء! فاسكت يارجل). ولكنه بعد يوم آخر

زارني رجلان من (الديرة *) وكانا يلبسان الثياب الوطنية وأخذا يسألانني عن حالي، ثم قال أحدهما (إن الذي أخبرنا هو نسيبك مساعد الشمري) فقلت

- أووه! حقا؟ كيف حاله

- إن شاء الله طيب لكنهم هم الذين كلموه وسوف يأتي غدا. هل تريد خدمة؟ قل أي شيء، لا بارك الله في جماعة لا يهتمون بأفراد جماعتهم وقت الشدة.

- صحيح

شكرتهما وغادرا. دون أن أشعر بأية حال مغايرة. ظللت أنام وأستيقظ دون توقيت وصرت مجال دعابات ممرضين محليين ملأى بالكراهية لي بسبب لن أقوله وهو لا يتعلق بي فقط! , لست أحكي ألغازا!. إنهم لا يعيرونني أي انتباه ولم أكن بحاجة إلى أن ينتبهوا لي. ولكن مفرداتهم سيئة وفيها ألفاظ قذرة حينما يسألون عن حالة الهضم يقولون مرادفها العامي وهذا ينمّ عن عدوانية وكراهية فادحة وتسجّل ضدنا جميعا كعرب ولكنهم أتفه من أن أبادلهم بنفس الطريقة.

وهذه آخر مسألة تهمهم فهم مطمئنون وليسوا بحاجة إلينا ولا لأي غريب. وقلت لمساعد بعد أن وصل ليلا إنني أعجز عن شكره، داهمني بعبارات المجاملة المحفوظة عن ظهر قلب ضمن عادات مجتمعنا الراضي تمام الرضا. كان جميلا أن نتحدث عن أشياءنا ولكنني اكتشفت أنه أشد اقتناعا بأفكار المجتمع باعتبارها ضمن التابوه. فصرت أقتصر على الاستماع إليه. وبعد يومين سافر. وهو يودعني بشكل مفاجىء ويعدني بالعودة بعد غد انتابتني سوْرة من الحزن والرثاء لنفسي ولكنني سرعان ما نمت واستيقظت وكأنه كان حلما. ومشكلتي أنني أعي أنني وصلت مرحلة من الإكتئاب لا توصف ولكنها أفضل من كآبتي هناك التي يصاحبها قلق رهيب ووحشة مضاعفة. ولا أستطيع النوم. ولكنني هنا أنام متى اغمضت عينيّ نمت!. وهو أمر كان مهما وغير منتظر. ومرة جاءت عاملة من المطعم وقد أحضرت لي صحنا للإفطار، وسألتني إن كنت أريدها تعمل لي سندوتشات فقلت نعم ونظرت إلى وجهها القريب مني ولكن من جانبه وكان أنفها يخبر عن جمالها فجعلت أدخل في تفاصيل ظننت أنني نسيتها ضمن ما نسيت. وكانت منتبهة لنظراتي المحدقة وحركت فمها وجانب وجهها بشكل مغوٍِ ولكنها خرجت فأكلت كل ما صنعت لي. وأيقنت لحظتها أنني تماثلت للشفاء. ولكنني لست مريضا الآن، وإنما كان (مساعد) يقوم بمراجعات للسفارة كي يدفعوا للمستشفى وهو أمر لا يمكن أن أقوم به إطلاقا. فأنا أتوجس من مرأى الدوائر الرسمية بما فيها مديرية التوعية الصحية التي أعمل فيها شبه عاطل ولا يستطيعون أن يفعلوا ضدي شيئا لأنه تصادف وأن المدير العام في الوطن كله ابن عم أبي من بعيد. وبفضله جعلت أتعامل مع الوظيفة بنفس طقوسي المتغيرة والغريبة. ومن يومها أيقنت أن معظم الناس يفعلون ذلك.

(2)

كلما جاء شتاء قلت ياربّ إجعله سلاما!. وأمس كنت أبحر في الإنترنت لأنه يقوم بتسليتي أفضل من الدش الممتلىء باخبار التقاتل العربي التي بسببها كرهت حتى العروبة , وجاءت فاطمة لتقول لي إنها تشبهني بالرواة الذين ألفوا (ألف ليلة وليلة) وقالت (إنهم فسّاق ومنحطون)!. ورددت عليها أن توظيفي لمسألة المحظورات التي حللّها من كتبوا الف ليلة وليلة وهو توظيف يؤكد أنني أعتقد أن الأنثى يجب ألاّ تتعوّد كراهية جمالها (فهي جميلة لدرجة لا تحتمل!) لأن هذا يجعلها تختل على صعيد روحها وجسدها. ومارست نفس الغواية حتى وأنا أعتذر وأوضح، إذْ عدت إلى الكلام عن جمالها.

الليلة الماضية حلمت أننا - فاطمة وفاطمة - نسير في طريق لا أعرفه وكانت تمطر. وضعنا وبكينا ولكننا وصلنا في منتهى الحلم إلى أن جلسنا أمام التلفزيون وشاهدنا فيلم (الطيور). وانتهى الحلم كما تنتهي كل أحلام الإحباط وبينما كنت أتذكر في الصباح وجهها الرائع والجنونيّ الفتنة. ثم علقت بذهني مسألة المطر إذْ قرأت تفسير ابن سيرين في كتيب شعبي وكان مقدمه في معرض ثناءه على ابن سيرين يشيد بأنه فسّر حلم امرأة بأنه سيموت بعد أسبوع وتهدّج صوته وألمّ به ضيق (يقول المقدِّم) ولكنه دعا الله فقلت لنفسي إذْ لا أحد عندي أحاوره، إنه يقول (ابن سيرين) إنّ المطر في الحلم (فتنة) فارتفعت نبضات قلبي ولم أهدأ حتى سخرت من هذا بمجرد أن كررت السؤال الذي سألته قبل ثلاثين عاما (هل يحلم إنسان نيابة عن آخر؟). سألته بعد قراءة تفسيره لحلم المرأة. وهو سؤال يدخل ضمن التابوه. وبمجرد أن أحكيه لصديق يسارع قائلا (استغفر) بلهجة أمر وتجعلك تتساءل هل يصدق نفسه حين يقول إنه مثقف ومطلع؟ ولكنني تذكرت صورة فاطمة وهي تلبس كنزة صوفية بيضاء، إذْ بدَتْ أكثر سحرا وأشدّ جاذبية فقد كنت لا أظن أن اللون الأبيض للبس الشتوي ملائم أو يمكن قبوله ولكنّ (فاطمة) وجدتها! وجدت إجابة سؤالي بارتداءها كنزة صوفية بيضاء. إنها أنثى مبدعة وليست مجرد (امرأة)! وصل بها الإبداع الى حالة اعتداد بالنفس مثلما كانت تحدق فيّ مبتسمة بتحدٍِّ وواثقة من أنها ستنتصر، في كل حياتها تدخل عملها دخول مُحارِب مقتحم.

ومضيت في تداعيات العاشق الوحيد كما يمعن الذين بلغوا الحِلم في عادات ممضة من أجل إعادة الدهشة الأولى.

كلّ يوم تطلّ عليّ من بعيد. فأمعن فيها، أرى طرقات وشرفات وتحايا وملابس رائعة ولا يلبسها غيرها. ولم نتحدّث معا سوى مرة واحدة أجهزت على المتبقي من سلطة عقلي التي فرضتها بالقوة على نفسي وعملت بتعليماتها كما نفعل مع تعليمات أي سلطة!.

غنيت لها وكنت بعيد عهد بالغناء. وتخيلتها وأنا أستعيد تفاصيل وجهها أنفها الذي كانت خطوط حمراء رقيقة تهندسه ففكرت بطريقة كلامها الذي يمنحه أنفها الرائع موسيقا لا تملك إلا الجنون بها. تدوزن عباراتها بحيث تأخذ بين مقاطع الحديث استراحة أسمعها فيها وكأنما تتنهدّ مثل الذي سار طويلا. دافىء صوتها وله رائحة. ولم تعد تحدثني منذ سنين. وقد مررت بمرحلة من الإنتكاس والوجع بسبب مبررات مقاطعتها إيّاي.

وشيئا فشيئا أخذت أدقّ أبواب النسيان فتفتح لي كل مرة أوسع مما فتحت المرة السابقة. وجعلت أمارس تمارين السيطرة على المشاعر السلبية. وهي نظريا تعتبر موضوعا لهواة التأليف ممن لاموهبة لديهم سوى ترديد ماقرأوا من كتبٍ ويتوقف هذا الترديد عند تكرار مفردات بعينها ولا يبلغ مقام ترديد الطيور لغناءها العذب.

أنا حزين جدا. تلك مسألة خاصة لا يجب أن تقولها لأحد!. منذ أن وقعت في دفاتر مؤسسة الحزن الرسمية صاروا يمشون بعيدا عني وكأنني أستطيع أن أزلزل الشارع من تحتهم. واليوم قرأت أن مواطنا انتحر وقال الناطق الرسمي (.. وإنه مريض نفسيا!!!). وعلى هذا المنوال ينبغي أن نسير ونقول ونفكر ونأمل.

إن فاطمة كانت من دوافع استمراري في الحياة ولكنني الآن أدركت أن استمراري هو رهن رغبتي وهذا يعني أنني جبان!. والجبن صفة مختلف عليها وإن أجمع بعض الناس عليها. لا: بل كل الناس!

حائل

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة