ما النقد؟ ومن له الحق في أن ينقد؟ تحضرني كلمة بليغة مهمة في هذا السياق: (لا يكبُر أحد عن أن يُنقَد، ولا يصغر أحدٌ عن أن يَنقُد)، وليست هذه الكلمة - في سياق الحاجة التي في نفسي- إلا هديّة لمن يشملهم بعض ما في هذه التمتمات.
إن كثيراً من المواقف التي مررت بها في تجربتي مع النقد - ناقداً ومنقوداً - أطلعتني على أمور، أطيبها أن معالجة النقد الأدبي سهلة ميسّرة لمن شاء، لا يمنعه أحدٌ عن أن يقول ويصول، وأخبثها أن مفهوم النقد صار عند طائفة من الكتّاب وسيلة لمنافع، أو مطية لحاجات فهو (إسرار حسو في ارتغاء)، أو انتفاخ وادّعاء، و(ليس في العباءة إلا الهباء).
والنقد (الطيب) بُلْغةٌ للمبدع، ورصيد للناقد، وإسهام في حركة التطور والتحديث الأدبي، غير أنه - في آخر زمان الإبداع - قليل، وقد سمعت من يهمس في أذن صاحبه: «إن في بني فلان لناقدًا طيّبًا حصيفًا». وهذه الكلمة وأمثالها لا تقال إلا همسًا؛ لأن أرباب النقد الخبيث لا يفرحون بها، ويطاردون من يقولها ومن يؤمن بها.
أما (خَبَثُ) النقد فقد شاع، وأمسى هو القاعدة، إذْ أصبح غيره هو الاستثناء.
فمن خَبَث النقد أن أحدهم كتب كتاباً كبيراً ضخماً - والضخامة هنا ذمّ، كالبعير الذي يصرّفه الوليد بغير لبّ، ويحبسه على الخسف الجرير- وحشاه بكلّ ما وصل إلى لسانه من كلمات المجاملة والمديح الفجّ لأحد الكتاب السعوديين العاديين- من حيث قيمة إنتاجهم الأدبي- ولكنه كان يروم أمراً حتى قضاه، فما صام بعدها ولا صلى.
وآخر جعل همّه أن يطارد شاعراً مشهوراً ذا منصب؛ ليعبّر عن إعجابه وكلفه وتوقه وشوقه إلى سماع شعره، وأنه لا ينام الليل حتى يسمع بيتاً أو بيتين من شعره، وكتب عنه ثم كتب، فقتل كيف كتب، ثم لما نال مبتغاه انقلب.
ومن نوادر ما يُذكر في هذا المقام المضحك أن أحدهم - وهذه كسوابقها ليست طرفة مخترعة- قدّم ملفاً إلى إحدى الوزارات طالباً عملاً، فجعل ضمن أوراق الملف مقالاته التي أثنى فيها على شاعرية وكيل الوزارة! ومثل هذا- أي مقدّم الملف- مغسول الوجه ب(مَرَق نقده) فلا يندى له جبين، ومغسول القول لا تندى له كلمة، ولكنه معسول الكلمات (بالعين المهملة)، وإن كان عسله من النوع المغشوش الذي لا يدركه أكثر الناس، ولكنه في (آخر زمان الإبداع) يُدرج في قائمة النقاد!
ومن عجيب ما يُعرف في هذا الأمر - وكلّه عجيب - أن بعضهم يرسل إلى مستنقِدٍ، لم يترك أحداً من الوجهاء إلا أسرف في تمجيد آثاره، وأنار للعُمي مسالك إبداعه، فيؤاجره على أن يكتب عنه، فيكتب، وينسى نفسه في غمرة الكتابة فيطفح داء (الأنوية)، فإذا هو يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب، والمستكتِب (بكسر التاء) يظن نفسه هو المقصود!
وهكذا إذا (خبُث) النقد اختلط الفاعل بالمفعول، وعلا المرذول على المقبول، وصدئت العقول (سجعتُ لأني شعرت باختناق والسجع يذكّرني بالطير المنطلق من قيود النقد الخبيث).
ويُذكر في (آخر زمان الإبداع) أن النقد أصبح مرعى مباحًا لكل من هبّ مشغوفًا ببريق الشهادة، فدبّ إلى أحد أقسام الدراسات الأدبية والنقدية، فجمع من هنا وهناك وافتعل وادّعى وتوصّل إلى مبتغاه بوسائل لا تمتّ للعلم والنقد بصلة، وأن من سبقوه من الهابّين الدابّين يسهّلون له ولأشباهه التشبّع بما لم يُعطوا، وهكذا يكثر الخبَث:
وكلّ قرين إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب
يا عبدالله، كن المنقود ولا تكن الناقد
كن الذي تتكسر على رأسه عِصِيُّ النقد ولا تكن الكاسر لها
يا عبدالله، تب مما اقترفتَ من نقد، قبل أن تغرغر روح أدبك، وقبل أن تطلع شمس إبداعك من مغربها.
اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.
الرياض