Culture Magazine Thursday  08/03/2012 G Issue 366
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الآخر 1433   العدد  366
 
تهويلُ أمر الموت!
وائل القاسم

 

الموت أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض وغلي في القدور ورضخ بالصخور، وهو كغصنٍ من الشوك يُضرب به الإنسان، فلا تبقى شوكة إلا دخلت في عرق أو عصب، ثم يُسحب الغصن فيَسحب معه كلَّ عرق أو عصبة في الجسد، فيشعر الإنسان وكأن جبال الدنيا على صدره وكأنه يتنفس من ثقب إبرة!!

كان ذلك بعض ما جاء في أحد خطب الجمعة التي حضرتها مؤخراً، والغريب هو أن الواعظ الذي ألقى تلك الخطبة المفزعة، كان يورد تلك الأقوال وغيرها مما لا يقل إرعاباً عنها، مسبوقة بقوله: قال فلان بن فلان وهو على فراش الموت، أو قال الإمام فلان يوصي ابنه وهو يحتضر: يا بني اعلم أن للموت كذا وكذا.. أو سئل الزاهد العابد فلان وهو يلفظ آخر أنفاسه عن سكرات الموت فقال.. أو قال بعض الناس للتقي الورع فلان وهو على فراش موته (صِفْ لنا الموت) فأجاب رحمه الله بقوله كذا وكذا. ولا أدري في الحقيقة كيف استطاع أولئك الأشخاص أن يتحدثوا مع الناس، وأن يجيبوا عن أسئلتهم، وأن يصفوا لهم الموت بهذه الدقة العالية المخيفة، وهم في هذا الألم الرهيب، والكرب العظيم الذي يفوق ألم النشر بالمناشير، والغلي في القدور، وحمل الجبال على الأكتاف، وتدوير قطب الأريحية على الأحداق، والتنفس من ثقوب الإبر، على حدّ وصف بعض وعاظنا!! يحاول بعض المتنطعين من الدعاة إيصال رسالة كئيبة لكل إنسان، مفادها أنه لن يكون قريباً من الله أو محبوباً عنده، إلا إذا عاش خائفاً مذعوراً من الأهوال القادمة في الطريق إليه، والتي بالغ كثير من الوعاظ على مرِّ تاريخنا العربي في تهويلها وتضخيمها، بل أضافوا عليها كثيراً من الآثار المرعبة والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، أو ما يُعرف عند علمائهم بالإسرائيليات التي لا يثقون بها ولا يبيحون إيرادها إلا في باب الوعظ فقط؛ بالإضافة إلى كثير من القصص المختلقة المثيرة للعجب والدهشة!

يريد هؤلاء من الإنسان أن يقضي جميع أوقاته أو غالبها خائفاً من الموت ومن عذاب القبر، ومن النفخ في الصور وما يتبعه من الأحداث التي تحصل يوم القيامة؛ وهذا بالتأكيد يتعارض مع عشرات النصوص الدينية المقدسة الصحيحة، التي أمرت الناس بالصعود إلى أرقى وأعلى الدرجات في سلالم الاستمتاع بالحياة بكل ما فيها، وعمارة الأرض بكل همّة وعزيمة وفرح ومرح وابتهاج وسرور وانشراح صدر. يركزون على قصر الأمل وتثبيط الهمم وقتل الرغبات والطموح، ويكررون أحاديث معينة، كقول الرسول عليه السلام: (مالي وللدنيا، إنما أنا كرجل قال تحت ظل شجرة ثم راح وتركها)، وكقول ابن عمر في حديث البخاري الشهير: أخذ رسول الله عليه السلام بمنكبيَّ فقال : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء). ويتجاهلون أنه لا يصحُّ النظرُ في تلك النصوص منفصلة عن بقية نصوص الإسلام الأخرى، كآية سورة القصص (وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) وكقوله عليه السلام مثلاً: (إن هذا الدين يسر, و لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه, فسددوا وقاربوا وابشروا).

قدّمَ لي أحدهم -قبل أعوام- كتيباً وعظياً بالغ فيه مؤلفه كثيراً في التهديد والوعيد، ووصفَ الموت والقبر وصفاً جنونياً قادراً على نقل القارئ إلى (مستشفى الأمراض النفسية) قبل الانتهاء من قراءته؛ فأهديته في صباح اليوم التالي هذه الأبيات الرائعة لأديب المهجر الكبير إيليا أبو ماضي، لعلمي أنها الدواء الناجع له ولأمثاله، حيث يقول شاعرنا الجميل:

أيّهذا الشّاكي وما بك داءٌ

كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟

إنّ شرّ الجناة في الأرض نفسٌ

تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا

وترى الشّوك في الورود، وتعمى

أن ترى فوقها النّدى إكليلا

هو عبء على الحياة ثقيل

من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا

والذي نفسه بغير جمالٍ

لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

ليس أشقى ممّن يرى العيش مراً

ويظنّ اللّذات فيه فضولا

أحكم النّاس في الحياة أناسٌ

عللّوها فأحسنوا التّعليلا

فتمتّع بالصّبح ما دمت فيهِ

لا تخف أن يزول حتى يزولا

وإذا ما أظلّ رأسك همّ

قصّر البحث فيه كي لا يطولا

أعتقد أن موضوع تهويل أمر الموت والتخويف منه بقصد النصيحة والوعظ، أخذ حجماً أكبر من المطلوب والمعقول، وبالغ الدعاة فيه أكثر من اللازم؛ فالموت كما يظهر لي ليس إلا نهاية سهلة جميلة طبيعية لكل كائن حي. إنها لا تختلف كثيراً عن بقية الأمور الأخرى التي تحدث للإنسان، كالولادة، والنوم، والمرض، والأكل، والتنفس، وغير ذلك من التغيّرات والاحتياجات والظواهر والمراحل الطبيعية التي يمر بها كل إنسان، بل كل كائن حي. ولا أظن أنه يستحق -أي الموت- كل هذا الزخم والإرهاب والصياح والصراخ والنواح وترويع الناس عند الحديث عنه. أنصح الجميع بقراءة رسالة جميلة، لإمام الظاهرية ابن حزم الأندلسي عنوانها (رسالة في ألم الموت وإبطاله) فقد رجّح فيها الإمام أنه ليس للموت أي ألم إطلاقاً، وقد استدلَّ على ذلك بكثير من الحجج الحسيّة والعقليّة. وذكر فيها أن كلَّ من يراه الناس وهو يموت وهو في عقله, إذا سأله أحدٌ عَمّا يجد، فإنه يقول: لاشيء إلا الانحلال فقط. وأشار في رسالته الفريدة من نوعها، إلى أن كل من يحسّ عند الموت ألماً فإنه ألمُ المرض الذي كان فيه, كالوجع المختصِّ بمكانٍ واحد، وما أشبه ذلك.. وردَّ فيها على المبالغين في وصف شدة الموت وصعوبته وأوجاعه، بل نفى كلَّ تلك المزاعم التي يوردها الوعّاظُ لتخويف الناس من الموت نفياً كاملاً قاطعاً؛ لأن القائلين بها لا يملكون أيَّ برهان سليمٍ يثبت صحّة مزاعمهم. وأنصحهم أيضاً بتأمل منتصف قصيدة (فلسفة الحياة) والتي أوردتُ مطلعها أعلاه؛ فقد أبدع أبو ماضي كثيراً حين قال:

أدركتْ كنهها طيورُ الرّوابي

فمن العار أن تظلَّ جهولا

ما تراها والحقلُ ملك سواها

تَخِذتْ فيه مسرحاً ومقيلا

تتغنّى، والصّقر قد ملك الجوّ

عليها ، والصائدون السّبيلا

تتغنّى، وقد رأتْ بعضها يؤخذ

حيّا والبعض يقضي قتيلا

تتغنّى، وعمرها بعض عام

أفتبكي وقد تعيش طويلا؟

فهي فوق الغصون في الفجر تتلو

سوَرَ الوجد والهوى ترتيلا

وهي طوراً على الثرى واقعات

تلقط الحبّ أو تجرّ الذيولا

كلّما أمسك الغصونَ سكون

صفّقت في الغصون حتى تميلا

فإذا ذهَّبَ الأصيلُ الرّوابي

وقفت فوقها تناجي الأصيلا

فأطلب اللّهو مثلما تطلب الأطيار

عند الهجير ظلاّ ظليلا

وتعلّم حبّ الطبيعة منها

واترك القال للورى والقيلا

فالذي يتّقي العواذل يلقى

كلّ حين في كلّ شخص عذولا

إنه لمن المحال أن يجتمع الأمل في الحياة والطموح في المستقبل؛ وما ينتج عنهما من إبداع ونجاح وحضارة ورقي ونهضة اجتماعية وتقدّم، مع النظرة المتشائمة التي تسعى إلى تكريس قصر الأمل واليأس والخوف والذعر، وما ينتج عنها من اكتئاب وعذاب وبكاء وعويل وآلام نفسية لا تنتهي.

لا أدري ما هو الدافع الذي يجعلهم يبذلون أفظع الجهود في سبيل طمس ملامح جمال أرواحنا بأصباغ الذعر والترويع الدائم المستمر المتكلّف!؟. لعمري إن منهجهم هذا هو الدمار الأكيد لكل طاقات الإنسان.. إنه البصق على عزيمته وشموخه وأحلامه الطبيعية الغريزية.. إنه الهبوط بإراداته وقدراته وقوّاته إلى أسفل سافلين.. لا يمكن للأرواح المصلوبة على جدران التخويف الكاذب، والمُداسة بأقدام الوهم والخرافة، أن تحلّق في سماء المجد الإنساني العظيم أبداً.

لقد حطّموها بأحجار الوعظ الزائد عن الحد، فأصبحت عاجزةً عن منافسة الأنفس الطبيعية السويّة، التي تعيش الحياة بكل ما فيها من جمال وبهاء وتفاؤل وأمل وسَعْد. إن شخصياتنا المنهكة بتلك الاسطوانات الإرهابية المشروخة ضعيفة مهزومة معاقة، لا تستطيع النظر إلى هذا الوجود ووسائل وعناصر إبداع الإنسان فيه، وحتى لو استطاعت النظر، فإن نظرها لن يكون ثاقباً ولا دقيقاً أبداً.. كيف للعين الرمْداء أن تنظر بوضوح!؟

إنه لمن المزعج السائد -للأسف الشديد- أن يقضي أحدُهم على طموح إنسان يتحدث عن آماله وأحلامه مسهباً في شرحها، مزهواً بها، مخططاً لها بكل جدية وعزيمة وإصرار. إنه لمن المزعج أن يقضي على كل ذلك بكلمات وعظية موغلة في الإرهاب والتحذير والتخدير والوعيد الشديد البعيد عن الأسلوب التوعويِّ الصحيح، أو بإهدائه كتاباً دينياً أو شريطاً وعظياً يفيض بتلك المثبطات السوداوية المنفرة من الحياة، والمتعارضة مع الدين الحنيف الذي تفوح من نصوصه روائح الأمل والتفاؤل والجمال الزكيّة. نعم، إنّ كثيراً من نصوص الإسلام حثَّتْ على العمل والحماس والاجتهاد والإنجاز والنجاح والبناء في مختلف المجالات والأصعدة.

أيها الوعاظ المتشددون: ألا ترون ما لدينا من الهموم والمنغّصات الدنيوية اليومية؟ ألا تكفي وتغني عن المبالغة في الحديث عن الموت وما بعده من الغيبيات بهذه الأساليب المدمرة المقلقة المخالفة لنهج الإسلام الصحيح.

أيها الناس: اتركوا تلك «النصائح» البعيدة عن جوهر النصح الحقيقي المثمر النافع، ولا تصغوا إلا لدعاة الحياة العظماء، ومنهم بل على رأسهم أديبنا المتفائل السالف الذكر، فقد ختم إيليا قصيدته الفاتنة تلك بقوله في آخرها:

أنتَ للأرض أولاً وأخيراً

كنت مَلْكا أو كنت عبداً ذليلا

لا خلود تحت السّماء لحيّ

فلماذا تراود المستحيلا

كلّ نجم إلى الأفول ولكنّ

آفة النّجم أن يخاف الأفولا

غاية الورد في الرّياض ذبول

كن حكيماً واسبق إليه الذبولا

وإذا ما وجدت في الأرض ظلاّ

فتفيّأ به إلى أن يحولا

وتوقّع، إذا السّماء اكفهرّت

مطراً في السّهول يُحْيي السهولا

قل لقوم يستنزفون المآقي

هل شفيتم مع البكاء غليلا؟

ما أتينا إلى الحياة لنشقى

فأريحوا، أهلَ العقول، العقولا

كلّ من يجمع الهموم عليه

أخذته الهموم أخذا وبيلا

كن هزاراً في عشّه يتغنّى

ومع الكبل لا يبالي الكبولا

لا غراباً يطارد الدّود في الأرضِ

وبوماً في اللّيل يبكي الطّلولا

كن غديراً يسير في الأرض رقراقاً

فيسقي من جانبيه الحقولا

تستحم النّجوم فيه ويلقى

كلّ شخص وكلّ شيء مثيلا

لا وعاء يقيّد الماء حتى

تستحيل المياه فيه وحولا

كن مع الفجر نسمة توسِع الأزهار

شمّا وتارة تقبيلا

لا سموماً من السّوافي اللّواتي

تملأ الأرض في الظّلام عويلا

ومع اللّيل كوكباً يؤنس الغابات

والنّهر والرّبى والسّهولا

لا دجى يكره العوالم والنّاسَ

فيلقي على الجميع سدولا

أيّهذا الشّاكي وما بك داء

كن جميلاً تر الوجود جميلا

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة