أرى أنّ معنى التناغم، الذي ينشأ من سلسلةِ الحالاتِ النفسيةِ، مؤلِّفا جوهرالكينونةِ، هو التناغمُ المُستبدلُ، الذي يُنتِجُ ما أسماه ت. س. إليُوت ب»وحدة الروح الأساسية»، والذي استقاه الرجلُ الغربيُّ أصلاً من الإيمانِ بسلسلةِ الوجود في النظامِ المُقدس. كل ما في الأمر، أن ْالإنسان قد غيّرالحديث زاوية النظرِ حين انتقاله من المعرفةِ الإلهيةِ إلى المعرفةِ الإنسانيةِ. فكان على الإنسانِ الغربيِّ أن يتعلم النظر من داخلِه إلى الخارجِ بحثاً عن معنى التناغمِ الخاصِّ به، بدلاً من التناغمِ الذي كان أصلا يستمتعُ به يوم كان يربطُ عالمه الداخلي بالنظام المقدس للكونِ.
أما عن النتائج المترتبة على إحلال الإنسانِ في مركزِ الوجودِ، فقد أدى ذلك إلى الإختفاءِ التدريجي للذاتِ المسيحيةِ التي خلقها الله ورعاها. فقد الإنسان الغربي ما ألمح إليه ت.س. إليُوت بعبارته، «وحدة الروح الأساسية»، كما وردت في أطروحتِه الشهيرةِ، «التقاليدُ والموهبة الفردية». بعبارةٍ أخرى، إن الذات المسيحية القديمة التي كانت تستقي توازنها من معرفةِ مكانِها بالنسبةِ إلى الكونِ الأكبرِ أخذت تختفي تدريجيا، فاتحة الطريق أمام الذات المُتشظِّيةِ التي تُصارع نفسها بيأسٍ لأجل الكمالِ الذاتي.
تتجلى إحدى وسائلِ الوصولِ إلى الكمالِ الذاتيِّ، كما يؤكِّدُ ت.س. إليُوت، بالتسامي فوق حدودِ النفسِ، أو ب»التجرُّدِ من الشخصنةِ»، ذلك أنه «ما من فنانٍ يملكُ كامل معناه وحده»؛ أي ينبغي أن يُنظر إلى إنجازِه ضمن إنجازِ من سبقوه. مثلُ هذا الخطابِ الحداثيِّ عن الذات ، الذي غدا عقيدة أغلبِ الكُتّابِ الحداثيين في القرنِ العشرين، تشرحُه هذه النزعةُ الحداثيةُ القويةُ: الانتقالُ من النزعةِ الرومانسية للشعور ب»الأنا» إلى الشعور ب»نحن»؛ أي من الذاكرةِ الشخصيةِ إلى الذاكرةِ الجماعية. بعبارةٍ أخرى، لقد بنى الكُتّابُ الحداثيون، وقد استثارهم هذا التوقُ إلى الكمالِ الروحيِّ، عوالم مُتخيلة على مركزِ الزمن المُتحرك، فتنقلوا بين الأمامِ والخلفِ في تيار الزمن، ليعيشوا في اللازمن. وهذا ما يُفسِّرُ تلك النزعة الحداثية إلى هاجسِ الزمن، مما يدلُّ على طموحٍ لابتداعِ شعورٍ كونيٍّ في جوهرِ الكينونةِ كوسيلةٍ لإحلالِ ذاكرةِ الإنسانِ الجماعيةِ، أي التاريخ، محل «المركزِ» المُقدسِ.
وهذا تماماً ما حاولت فرجينيا وولف أن تبتدعه من خلال رؤيتها الجمالية للواقع التي عكستها خصوصاً في عوالمها المتخيلة في الرواية، وهي رؤية تقوم على حتمية تجاوز حدود الذات لأجل الوصول إلى تيار الزمن الأبدي الذي يصب فيه كل كائن بشري وغير بشري في كلٍّ ليمثّل وعياً كونياً لإنتاج «عقل مشترك» نشترك فيه أبداً في تأليف هذا العمل الفنيّ الذي «نسميه العالم»، لحظات الكينونة. أما القائدُ الوحيدُ لهذه السمفونيةِ الكونية، فهو الإنسانُ والإنسانُ وحدَه!!! وذلك حين نُنتجُ من شكلِها الفوضويِّ «الضخمِ «، العالم، أعمالاً فنيةً مثل «هَمْلِت أو رباعية لبيتْهوفِن». وبالرغم من أن كلَّ عمل يوقِّعُه فنانٌ واحدٌ، «إلا أنه ليس هناك شِكْسْبير، ليس هناك بيتْهوفِن.» وهذا عائدٌ إلى حقيقةِ أننا «نحنُ الكلماتُ في هَملِت شِكْسْبير، و»نحنُ الموسيقى» في رباعيةِ بيتْهوفِن، لحظات الكينونة لأننا نمثّل «كلُّ جزء من هذا الكلّ» (بين الفصول).
* ثوب *أمِّها*» قد غرست في ذهنِها، في مرحلةِ ما قبل الكلام، غريزةَ حب التوحُّد مع الأشياء والموجودات. إذ تمثّلت لها أمها بصورة الأم المثالية إلى حد القداسة، فكانت مركز العائلة السعيدة التي تجمع برقتها وعطائها اللامحدود شتى الأطياف من الناس: الأصدقاءِ والأقاربِ الذين كانوا يزورون باستمرار منزلهم على شاطئ كورْنوُول، كذلك المرضى الذين كانت جوليا تمرضهم إذ كانت تمتهنُ التمريضَ وتجلبهم في بعض الأحيان إلى المنزل لأجل ذلك وفي آخر الأمر مرضت بالحمى وماتت بسبب عدوى التقطتها من احد مرضاها. في كتاب الضريح لوالد فرجينيا، لسلي ستيفن، يصور زوجتَه على أنها جوهرُ الحبِّ، لأن مادةَ حياتِها كانت منسوجةً من خيوطِ محبتِها. وهي صورة تبدو فيها أقرب إلى المرأة القديسة، يقول، «إنها حياةُ قدِّيسةٍ فكتوريةٍ ... ويتضمّنُ كتاب الضريح نموذجاً دينياً أُحِلَّ فيه حبُّ الآخرين محلَّ حبِّ الخالق.»
وحول مركزية دور الأم في حياة فرجينيا وولف يمكن تبينه بجلاء إذا عدنا إلى ذاكرة فرجينيا لنغرف منها ذكرى لحظة وفاة والدتها وهي لحظة تستعيدها في مذكراتها، ذكريات Reminiscences بعد أربعة وأربعين عاما من فقدها لأمها، تتصور»العالم المليء البهيج»،الذي كانت أمها تنسجه في صلب طفولتها ويجعل من حياة الأسرةِ المشتركة، «بهيجة جداً? مُثيرةً جداً? مزدحمةً بالناس؛ لقد كانت هي المركز... وقد ثبت هذا في الخامس من أيّار ذلك أنه بعد ذلك اليومِ لم يبق شيءٌ منه،» كما تؤكد فرجينيا وولف. لم يبق منه سوى الخواء ينشج نحيبه عويلا في كل مكان. كما تستعيد لحظة الفجيعة تارة أخرى في لحظات الكينونة، قائلة، «كان موتها المصيبةَ الكبرى التي يمكنُ حدوثُها؛ كأنّ السحبَ الجاريةَ في يومٍ ربيعيٍّ متألِّقٍ توقَّفت فجأةً، ثم أعتمتْ فاحتشد بعضُها فوق بعض؛ اهتاجت الريحُ، وناحت كلُّ مخلوقاتِ الأرضِ أو هامت على وجهها.» ويبقى السؤال، هل خواء عالم، يصفر فيه العدم، كما تصوره فرجينيا وولف بعد اختفاء مركز عالمها،أمها القديسة، وهو كما يبدو مرجعاً لصدى الفجيعة في كلمات باسكال وييتس حول مغبة فقدانهم الله كمركز وجود، ثم محاولات فرجينيا وولف استعادة صورة والدتها في إلى الفنار، كمركز نور لا يفنى، كفنار يخترق بضوئه حُجُب ظلمات أعماق بحر هادر، فيحيل الظلام، ضياءاً، والفوضى «منصة استقرار» ليكون «القاعدة الأخيرة» التي ترتكز عليها كينونتها والوجود، يٌفصح عن المأزق الروحي للانسان الحديث في الغرب؟!!
* محاضرة بجامعة الملك سعود- قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
* هذه المقالة هي جزء من كتاب مترجم عن الإنجليزية سينشر قريباً بعنوان، (استخدام تيار الوعي لتصوير واقع أعمق كما يتجلى في عمل دورُثي رِتشِاردسُن الروائي الحجّ وفي بعض روايات فِرجينيا وُولف)
mayhazmi@hotmail.com
الرياض