(أ)
إنشاءُ الكتب المُسيّسة وأداً للتعدّديّة عادة ما يتطلّب صياغة بسيطة مكرّرة تسهيلا لقراءتها من قبل العامّة وحفظها؛ وتظهر تحت مسمّى «موسوعات» التيّارات والاتجاهات والمذاهب، وبوسم العلميّة والموضوعيّة وهي أبعد ما تكون عنهما، وهذا الإنشاء التفاضليّ ضربٌ من «حجبنة المعرفة»، إذْ أنّه لا يسوّق لتيّاره عبر إظهار جماليّاته –ولا ضير في ذلك، فكلّ تيّار يحمل في متنه وهامشه جماليّات عامة وأخرى خاصّة به- لكنّه ينطلق من تشويه الآخرين تجميلا للذات، بالتركيز على سلبيّات الاتجاهات الأخرى، بل اختلاق ما يشوّهها في ذهنيّة أتباعه.
(ب)
إنّ وجود الأشياء ذات المنفعة والحاجة لا يعني حُسن استعمالها على الوجه الذي وُجدتْ لأجله، فهل لوجود الشيء قيمة إذا انتهت الحاجة إليه؟ ألا تفقد الأشياء قيمتها إن لم تكن ذات نفع، أو أنّها ذات ضرر؟ فكلّ تشويهٍ يُنقص قيمة الشيء، وكلّ اعتداءٍ إظهاراً لسلبيّاته هو «حجبنة» تَرصُّ في ذهنيّة المتلقّي سواتر ضدّ الشيء المحجوب؛ وهذه الوسيلة أقوى من (المحظوريّة العينيّة)، لطالما أنّ أثر المنع/الحظر يزول بزوال العارض، أمّا الحجب عبر (آليّة التشويه) فتجاوزه يستدعي إزاحة التلقينات التي تحتلّ العقل كمسلّمات خارج منطق السبب والنتيجة؛ ولا تخضع للأسئلة والمساءلة.
(ج)
على ضوء التأثيم والتشويه والندرة، أتساءل: إلى أيّ مدى يمكن وقعنة شعار: «الكتاب للجميع»، الخاضع لأعمال «الحجبنة» في الإرهاب القرائي؟ وهل هو مجرّد شعار تابع خالٍ من المعنى، ومستحيل المبنى، وأنّه مأسور بأعمال الدعاية؟
حسناً، أين هذا المشروع الذي ينفّذ الشعار بإدخال (الإصدارات الحديثة) إلى كلّ دار؟
لا يعني الشروع بحلّ إشكاليّة وفرة الكتاب وإتاحته (المستحيلة للجميع) انتهاءً للمأزق المعرفيّ، فالمشكلة ليست مقصورةً على (الإتاحة)، بل تتعدّاها إلى قيمة (وجود الكتاب) ومعنى قراءته، إذّاك إلى أي مدى وجود الكتاب يحلّ من إشكاليّة تدَنّي معدلات القراءة وقيمتها أيضاً؟
(حجبنة الكتاب): مفهوم يتخطّى المحظورية إلى التأطيريّة والتعمية والوصاية، فهي: تجفيف مصادر العقل وتحجيم أعماله. لذلك، فالنظر إلى حال المكتبات العامّة والتجاريّة والمعارض، والتشهير بالمؤلفين مسّاً بشخصهم وإقصاءً لنصّهم، يفصح عن ترجيح كفّة الحجبنة على كفّة مشاعيّة الكتاب التي يوحي بها شعار (الكتاب للجميع)، هكذا يأتي طرحه مقروناً بالتبعيّة حين الخوض عن المنجزات (الوهميّة)، أو (أنّه زائدة) أثناء افتتاح أي مناسبة ذات علاقة! فإلى أي مدى يرتبط (الشعار) بسياق الإيحاء المضاد للمشروع المنفّذ على الأرض: «حجبنة الكتاب»! من هنا نجد شعاراً بلا مشروع، وإن كان ثمّة مشروع (غير معلن) فإنّ السؤال الذي يُطرح: أيّ كتاب هذا، ما نوعه، ما قيمته؟ وهل للمشروع ارتباطات باستراتيجيّةٍ ترفع قيمة القراءة كمصدر رئيس من مصادر العقل المعرفيّ، بحيث تكون المفاهيم المدنيّة التي تطرحها النخب عبر منابرها المحدودة مفاهيماً أكثر تداولاً على مستوى شرائح عدّة في المجتمع.
الأسئلة والشواهد التي تمتحن مقولة: (الكتاب للجميع) المتزامنة مع معرض الكتاب الدولي في الرياض كثيرة تتعلّق (بالمكان، الزمان، الحظر، التشويه، القيمة، التأثيم، الغموض)؛ لكنّني هاهنا سوف أركّز على التناقض الفاضح بين المقولة وبين الممارسة:
* كيف الكتاب للجميع، وقائمة المنع طويلة، ولسنا ندري المعايير والضوابط وراء إجراءات المنع؟
* كيف الكتاب للجميع، ومعرض الكتاب الدولي لا يزور مدن المملكة الرئيسة؟
(د)
ندرة دعم دور النشر والورّاقين والتوزيع، شُحّ الإصدارات والترجمات، غياب المشاريع التسويقيّة لنشر ثقافة القراءة، هجرة القطاع الخاص، ارتفاع أسعار الكتاب، كُلّها مؤشّرات قياسيّة لأيّ مشروع ينهض بالكتاب وجوداً وانتفاعاً، وأيّاً يكن مستوى المؤشّر فإنّ غلبة محظوريّة الرقابة الدائمة تقضي على أيّ أملٍ في تحسين مستوى المؤشّر النهضوي.
يتزامن شعار «الكتاب للجميع» مع معرض الكتاب الدولي بالرياض، ولعلّه يتوارى طيلة العام، ثمّ يظهر في المناسبات، فكيف نفهمه مع إعلان الوكالة خضوع قوائم الكتب الواردة إلى المعرض للرقابة: (كيف تُفحص الإصدارات كلّها؟!). والظنّ في زعمي أنّه شرط صعب التطبيق وفق الظرف والموارد والطاقات، ممّا يجعل الشكّ من غائيّة هذا الشرط في مُمكنٍ آخر، لكنّ الأساس أنّ الغلبة للرقابة. فكيف يتم المنع، هل تخرج تصنيفاته عن كونها تخص: «موضوع الكتاب (النص)/ مؤلّف الكتاب (الشخص)/ طبيعة الدار وجغرافيّتها/ اجتهاد انتقائي غير مصنّف». ما هي معايير عمل الرقابة في منع الكتاب؟
الكشف والشفافيّة عن آليّة عمل الرقابة ومعاييرها ضرورة؛ إذ لم يَعُد منطقيّاً أن تمرّ هكذا معارض ثمّ لا يستغلّها المثقّف للمطالبة بمناقشة مسألة الرقابة، كيلا تبقى اجتهاديّة غير مقنّنة، ذلك أنّ عددا كبيرا من إصدارات كتّابنا لم تُفسح بعد، والمنع في زعمي ينتمي في غالبيّتها إلى الخانة الاجتهاديّة والشخصانيّة؛ فبينما الكتب متوفّرة على شبكات الإنترنت، (بطرق قانونيّة وأخرى لصوصيّة تحتاج إلى ضبط من قبل جهات الاختصاص) إلاّ أنّها محظورة في المكتبات المحليّة؛ فكيف إذن يكون شعار (الكتاب للجميع) ذا معنى ومبنى؟
(هـ)
الغاية من معرض الكتاب، هو الكتاب عينه: إباحته وإتاحته، هل نختلف على هذه البديهيّة؟ لكنّ الإباحة موجّهة ومحدودة بالمحظوريّة، والإتاحة مشروطة بارتفاع المقابل المادي؛ وكلاهما محاصر بالظرف، فحجبنة المعرض عن الطواف في مدن المملكة الرئيسة، وغياب الأسباب والصمت حيال توقّف (معرض الكتاب بجدّة) منذ سنوات عجاف، تجعل الغاية الظاهرة محلّ تساؤلٍ لكمّية الطعون التي يمكن أن تخدش مصداقيّتها.
فمن متطلّبات وقعنة مشروع «الكتاب للجميع»، أنّك تقيم معارض الكتاب في المدن الرئيسة، وفق ضوابط ورقابة على أسعار الكتب وليس على عناوينها؛ أن تصدر الوزارة إصدارات عالميّة سنويّاً بأسعار رمزيّة: أمّا التعامل مع المعرض على أنّه (شرّ لا بدّ منه)، ومشاهدته يتحوّل إلى ميدان اقتتال دون ردع الجهة المسؤولة التي تحرّف المكان عن غايته، كلّ ذلك لا يطمئنك أنّ: (الكتاب للجميع).
(و)
إنّ المصادفة لا تقع في نطاق الملاحظات المنصبّة تحت تأثير حجبنة الكتاب، فالإصرار على أحاديّة المكان، والميقات المشكوك في ملاءمته، الصبر (غير المبرّر) على المشهّرين بالمعرض ومحتوياته وساحته وزوّاره، (فلتان) تضخّم الأسعار، حظر الكتب دون تبيان المعايير والضوابط، وحين يتحوّل المعرض إلى ساحة لفرز الحق عن الباطل تنصب فيها المرافعات، حينذاك أيّ قيمة لمعرض الكتاب تفضي إلى الكتاب نفسه؛ لقد كَثُرت أسئلة هذا المقال لحظوة المقام، فالإجابات في أحايين كثيرة ليست ضروريّة، إنّما السؤال هو طريق المعرفة، والمطالبةُ أساسُ استرداد الحقوق.
(ز)
في ظلّ مجتمعٍ لديه من يقينيّاته الباردة مقولات تَحُولُ دونه والكتاب، وتحيده أن يرى مخاطر الحجبنة عنه، فمن مقولة الغزالي:»من تمنطق قد تزندق»، حتّى المثل: «من كان دليله كتابه، خطأه أكثر من صوابه». هكذا تكون الأولويّة لإزالة آثار «حجبنة الكتاب» المتراكمة والقضاء على الإرهاب القرائي، ثمّ إذّاك نفكّر في لُغْز (الكتاب للجميع)، فما تدري ما المقصود بالكتاب هاهنا؟ وحتماً أيضاً لا تدري: ما معنى الجميع؟
تهنئة لكلِّ زملائنا الكتّاب على إصداراتهم الجديدة، ونتمنّى حصولها على الحقّ المشروع بإجازة فسحها ووجودها في المكتبات المحليّة.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة