أشرت في المقال السابق «الزهايمر ليس نكتة» إلى الطريقة الكوميدية التي طرح بها فيلم (زهايمر) هذا المرض الخطير، وتوقفت عند لقاء بطله عادل أمام في برنامج سكوووب على قناة إم بي سي، حيث صرح بأنه لن يسلط الضوء على المرض بل سيستعين به في الأحداث. والفكرة التي أردت أن أوصلها هي أن عادل أمام ليس بدعاً من الفنانين والمبدعين العرب الذين لم يولوا مسألة التوعية من خلال الإبداع أي اهتمام.
وكثيراً ما يرد على الأذهان الكتاب الوداعي للأديب الراحل غازي القصيبي والمعنون (الزهايمر) كمثل على حرص الكاتب على تسليط الضوء على هذا المرض ولفت الانتباه له، وهذا صحيح إن كنا ندلل على النوايا الحسنة للدكتور غازي رحمه الله، لكن المنتج للأسف لم يأت على قدر هذا المرض العضال ولا على قدر المؤلف الكبير. وقد لاحظ الكثير من النقاد أن الكتاب قد صدر على عجالة، فهو بالفعل عبارة عن أقصوصة - كما وسمها - ليس فقط لأنها صغيرة الحجم جداً، بل لأن من الواضح أنه إن كان هو من كتبها فعلاً ولو على فراش الموت، فهو لم ينجزها إلا وفاء لوعد قطعه لجمعية أصدقاء الزهايمر، أو دار بيسان.
هذه الأقصوصة هي في حقيقة الأمر عبارة عن قصاقيص زائدة عن احتياج رواية سابقة عنوانها (حكاية حب)، والتي لحقتها رواية تشكل جزءها الثاني، وعنوانها (رجل جاء وذهب). في الروايتين يظهر البطل يعقوب العريان الذي ينتقل إلى مصح في أمريكا لقضاء أيامه الأخيرة بعد أن يتأكد من إصابته بمرض لا برء منه. في الروايتين تتدهور صحة يعقوب وهو يكتب مذكراته أو رسائله لزوجته البعيدة، وفي الروايتين يقضي يعقوب الجزء الأكبر من الرواية في تسجيل ملاحظاته وانطباعاته عن المكان القصي الذي يقضي فيه أيامه الأخيرة بانتظار الموت، وينقل محادثاته مع المرضى الآخرين والفريق الذي يتولى علاجه بأسلوب ساخر وظريف يتمكن القصيبي من خلاله تمرير مواقفه الفكرية من الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة.
البطل في أقصوصة القصيبي هو نفسه يعقوب العريان، ولا أشير هنا إلى تشابه بين البطلين السابقين وبطل الزهايمر، بل إنه فعلاً هو يعقوب العريان باسمه وجسمه، وإن تغير مرضه من السرطان إلى الزهايمر. كذلك فإن المكان هو المكان والشخوص لا تختلف كثيراً والفريق الطبي هو ذاته الفريق الطبي. القصيبي لم يكتب رواية جديدة، ولا أقصوصة مبتكرة، بل كل ما في الأمر أنه بدل المرض، في حين أنه أبقى على كل التفاصيل الواردة في روايتيه السابقتين.
في الأقصوصة يعاني الخط السردي من قصر المساحات والأزمنة، فلا مجال لشرح معاناة المصاب بالزهايمر فالقصة تنتهي فجأة ودون مقدمات في فصل عنوانه مخرج، يُخرج به الكاتب بطله من أزمته الوجودية من خلال أزمة قلبية تودي بحياته. ولكي يضع القصيبي كتابه في منظومة التوعية بالزهايمر فإنه يحشده بزخم معلوماتي مقتبس من مجلات علمية ومفروض فرضاً على النص. الزهايمر القصيبي ما هي إلا أقصوصة مستلة من رواية سابقة، ملخص لما سبق نشره كرواية مكتملة، حملة توعوية لا فن فيها ولا إبداع.
أما رواية (اسمه الغرام) للكاتبة اللبنانية علوية صبح، فقد تم ترشيحها للفوز بجائزة البوكر لعام 2010، على الرغم من الضعف الشديد لنهايتها الصادمة. تتحدث الرواية عن امرأة خمسينية تنشطر بين زوج طيب لا تحبه وحبيب حرمت منه. لكن نهاية الرواية هي أسوأ ما فيها، فهي تستخف بمرض الزهايمر حين تختفي بطلتها فجأة، ثم يأتينا الخبر اليقين بأنها مفقودة لأنها اكتشفت إصابتها بالمرض فخرجت من بيتها ولم تعد لأنها تاهت عن طريق العودة. هذا هو كل الاهتمام الذي تبديه الكاتبة تجاه موضوع غاية في الأهمية. ومن الواضح أن علوية صبح لا تقصد التوعية بالمرض، بل إن الزهايمر أعطاها مخرجاً من نهاية مجهولة لا تفسير لها سواه.
هذا الاستغلال لأعراض مرض الزهايمر يظهر مرة أخرى في المسرحية التونسية المسماة (مرض زهايمر) التي فازت بجائزة الشيخ سلطان القاسمي هذا العام. وقد يظن القارئ أن مسرحية لم تكتفِ باسم المرض كعنوان بل حددت كونه مرضاً، سوف تعطيه مساحة عرض كبيرة وتتعامل معه بإبداع يرفع وتيرة الوعي والتعاطف الإنساني، لكن المفاجأة تأتي على لسان مؤلفة المسرحية ومخرجتها مريم بو سالمي حين تقول بصراحة تامة: « الزهايمر ليس سوى ذريعة اخترناها لمسرحيتنا، فهي ليست مسرحية حول مرض الزهايمر»، بل مسرحية توظف المرض لخدمة أغراض أخرى.
وهكذا تفعل الكاتبة المصرية نوال مصطفى في روايتها (الزمن المر)، التي تقلص مشكلة بطلتها شهد كبطلة محورية لنص واعد بتوزيع اهتمامها على عدد كبير من الشخصيات لهم جميعاً مغامرات وغوايات فتتابع تطوراتهم العاطفية داخل شبكة من العلاقات المتداخلة ليصبح موضوعها هو أزمة منتصف العمر بدلاً من الزهايمر.
هل فشل الأديب العربي في تجسيد المعاناة الإنسانية لمريض الزهايمر؟ هل نضب خياله عن تصوير الآلام النفسية التي تعصف بكيانات أسرية كاملة أمام اغتيالات هذا المرض؟ الرواية الوحيدة التي نجحت في هذه المهمة الشاقة فأولت اهتماماً فائقاً لمرض الزهايمر هي رواية (عندما تترنح ذاكرة أمي) للكاتب المغربي الطاهر بن جلون. هذه الرواية الرائعة تقص حكاية ابن لمريضة الزهايمر، وهو ابن يحاول أن يبر بأمه قدر ما تتيح له فرص هذا العصر البائس الذي تفرقت فيه الأسر وتشتت فيما بينهم العواطف والمسؤوليات. الرواية تعطي تفاصيل كثيرة عن المرض وعن المريض، بل تمنح الأم مساحات واسعة لمنولوجات طويلة تبين تدهور حالتها العقلية وترنحها بين هنا ومكان آخر مجهول.
مريض الزهايمر يعتمد اعتماداً تاماً على عطف الآخرين وصبرهم وحبهم، فهو في عهدتهم 24 ساعة يومياً، الأمر الذي يرهق من يعتني بالمريض ولا بد من تناوب ثلاثة أشخاص على الأقل لخدمته. ليس هناك مجال لترك المريض لثانية واحدة دون رعاية، وفي الخارج يمنحون من يتفرغ لرعاية مريض الزهايمر راتبه كاملاً ليبقى في البيت ويعتني بمريضه، أما عندنا فيدفعون الموظف للاستقالة أو التقاعد المبكر دفعاً دون أدنى تعاطف أو رحمة.
الزهايمر مرض خطير يهاجم أقوى العقول وأجمد الشخصيات، من رئيس أمريكا رونالد ريجان إلى المرأة الحديدية مارجريت ثاتشر، ومن مصطفى محمود إلى محمود السعدني، يتنقل المرض ولا يعترف بمقدرة جبارة ولا ذاكرة حادة ولا بديهة سريعة. في فيلم (آيريس) تظهر الأديبة والفيلسوفة البريطانية المفوهة آيريس مردوك مرتبكة خلال لقاء صحفي وتقف صامتة خلال محاضرتها وقد شتت المرض عقلها الجميل. وتقول ابنة ثاتشر: « كدت أقع من مقعدي وأنا أشاهد أمي تصارع من أجل أن تجد الكلمات.. تلك المرأة التي ظننتها لا تنسى ولا تهرم.. امرأة من حديد لا يصدأ».
في الغرب روايات كثيرة وأفلام ومسرحيات وقصائد نجحت في تصوير أبعاد هذا المرض الخبيث تصويراً ساهم بقوة في توعية المتلقين وفي تهيئتهم للتعامل معه كمرضى أو كمساعدين للمرضى وذلك من خلال رفع وتيرة التعاطف الإنساني واستخراج الكثير.. الكثير من الحب. وهنا فيلم وثائقي سعودي عن الزهايمر يحكي ويبين طبيعة المرض ويدلف إلى قلوب مفعمة بالحب: http://www.youtube.com/watch?v=NQfok1UY8wA AND feature=related
lamiabaeshen@gmail.com
جدة