هممت منذ التسعينات الميلادية أن أتعلم اللغة الصينية، منذ أن تنبأ ذلك الشيخ الإنجليزي، الذي يكتب في التايمز – وهو ممن أثق في توقعاتهم – بأن الصينيين سيسيطرون على العالم في القرن الحادي والعشرين بسبب تركيزهم الشديد على الرياضيات (مفتاح التقدم في القرن القادم، آنذاك).
وبالرغم من أن هذا القرن لم يمض منه سوى إحدى عشرة سنة، إلا أن مؤشرات ذلك التغير في موازين القوى قد اتضحت جلياً، قبل انقضاء العشرية الأولى منه. فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مرتهنة في اقتصادها الداخلي للقرار الصيني، كما سعى الاتحاد الأوربي منذ أواخر 2010م لجذب الصين نحو حل المشكلات الأوربية.
فما الذي جرى على المستوى الثقافي؟ وما موقف العالم من تلك التحولات؟ ما جرى على المستوى الاقتصادي منذ نهاية 2008م، من نكسات واهتزازات معروفة، تبعها رعب سياسي من فقدان السيطرة على الاقتصاد العالمي. لكن الثقافة التي سادت منذ 2009م هي تخوف من تهور الصينيين، فيما يخص مصالحهم الخاصة، وعدم اكتراث بأنساق الاقتصاد العالمي، حتى وإن كانوا هم المسيطرين على دفة ذلك الاقتصاد، والمستفيد الأول من نموه وتوازنه.
الصينيون معروفون بالغموض إزاء الخارج، ومشهود لهم بابتزاز الموارد، وقلة العطاء. وهذا هو ما يجعل الناس تخاف من توسع نماذج الجيتوات الصينية، وتدوير مصالح تشاينا تاون المنتشرة في بلدان آسيا على وجه الخصوص، لتصبح هي معايير اشتغال الشركات الصينية العابرة للقارات. عندذاك ستترحم كثير من شعوب العالم على الغرب (الفرنسي والبريطاني سابقاً، أو الأمريكي لاحقاً)، خاصة المجتمعات الشرقية، التي تكثر من اتهام الغرب بالمؤامرات على خيرات بلدانهم، وازدراء ثقافات البلدان المستعمرة. لكن عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن ستجعل تلك الحناجر تذكر ذلك الاستغلال الغربي بالخير، وتتمنى أن يعود في حلم عربي مستمر؛ لا يعرف قيمة الشيء إلا بعد أفوله.
ثلاث صفات رئيسة يمكننا من خلال استعراضها التعرف على طبيعة «معازيبنا» الجدد؛ أولها أن النجاح الاقتصادي الهائل، الذي حققته الصين في العقود الثلاثة الأخيرة كان نتيجة أسلوب التجارة الصينية الجديد المتمثل في صناعة الابتكارات الغربية بأسعار أرخص مما يستطيع الغرب نفسه أن يصنعها في بلاده. وبذلك كانت القوة الاقتصادية ليست قائمة على محور الابتكار، بل على إنتاج السلع المقلدة؛ وهو ما يعني التملص من الاعتراف بحقوق الآخرين الابتكارية، وإنكار البراءات من خلال رتوش تغفل عنوان السلعة الرئيس.
ثانيها أن بلدا يملك القوة الاقتصادية فقط، التي يتحكم فيها، ويستفيد منها حوالي 20%؛ فيما يعاني ما يقرب من 80% من سكانه من الفقر وضعف الرعاية الطبية، أو العناية الاجتماعية، لا يمكنه أن يقدم نموذجاً للعدالة في العالم. بل إن الجاليات الصينية، التي تتحكم في بعض اقتصادات آسيا، تمارس أبشع أنواع الاستغلال، ولا تمانع من الاتجار بالبشر، وكل مفاسد المجتمعات النامية.
الثالث وهو الأهم بالنسبة إلينا، أنها ليست مثل الغرب في ازدراء الثقافات الأخرى؛ بل هي لا تعترف بغير الثقافة الصينية، ولا ترى أن الثقافات الأخرى تستحق الاحترام. وإذا كانت بعض ثقافات آسيا من الشنتو إلى البوذية تتصف بشيء من الروحانية؛ فإن الخلفيات الكونفوشية والحقبة الشيوعية المادية قد أزالت عنهم كل اهتمام بقيم الإنسان المعنوية.
فكثير من المفاجآت تنتظر أمم الأرض بعد سيادة النموذج الصيني، لا سيما فيما يخص المسؤوليات الاجتماعية للقوى الكبرى، وقضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. كما أن طغيان حاكم واحد هو المال سيكون ديدن ذلك العصر الصيني.. «والله يحلل الحجاج عند ولده»!
الرياض