ربما تكون أولى صفات أي مبدع حق أن يتميز صوته الخاص بحيث لا يكون صدى لأحد بل يؤكد نفسه وبصمته الفنية المتميزة الأصيلة فينتج فنَّاً أصيلاَ نبع من روحه المبدعة المتفردة. إنَّ هذه الصفة هي أول ما يخطر على بال القارئ الجيد لمجموعة القصائد النثرية والرسومات والأعمال الفنية التشكيلية للفنان الشامل والأديب المبدع عبد العزيز مشري.
صوت فني مبدع متفرد تلمسه وأنت تتابع قصائده.. وما أكثر ما قرأت من نتاجات لأدباء ما هي إلاّ صدى للآخرين فهذا صدى لأدونيس وذاك لمحمود درويش وهذا لنزار قباني.. .ألخ. فأقول لنفسي مالي وللصدى فلأقرأ الصوت الأصيل !! وكم من الكواكب الصغيرة الباهتة تدور حول الشموس وتستضئ بنورها!!
واعتباراً من قصيدته الموسومة بعنوان المجموعة « توسلات في زمن الجفاف « وحتى النص الأخير في المجموعة رأيت أنها تؤكد وتبرز هذه الصفة الرئيسية في نصوصه. فهو يستخدم ضمير المتكلم الخاص به وكاف الخطاب المؤنثة الخاصة بالأنثى / المرأة التي يعشقها ليصعّد تجربته الإنسانية والحميمة في البوح بمكنوناتِ روحه المبدعة:
قرّرتُ أن أدفنكِ في غضبي..
ألفّكِ بحزني..
وأنفحُ فيك رذاذ حرقتي..
قرّرتُ..
أن أغلّفكِ بنبضي الهمجي،
كطبلٍ أفريقي،
وأسدل عليكِ ستاراً،
من وجودي.
فانظر إلى البوح الهامس.. إلى المرأة التي يحبّها ويبثّها مكنونات روحه، وكيف تشع جوّاً من الحميمية باستخدامه ياء المتكلم، كاف الخطاب، مباشرة إلى المرأة التي يعشقها. وفي أحيان أخرى نراه يستخدم المونولوج الداخلي ليعبر عن تأمّله في الأشياء حوله والأحداث التي مرت به وشكّلت تراجيديا حياته وآلامه!!
لو
مزّقتني عبراتُ الألم..
لو أرّقتني :
ضياعاً في الآمال الوهمية الهامدة ،
وثواني سهراتي الوحيدة..
لو يقطر جرحي المعتق في حنايا النفس المذعورة :
قهراً.. صبراً، وقتلاً بطيئاً.
وارثٌ مورِّث
أقابل الأسماء البذيئة في حوطة الأجداث
وأنا على مسافة خيطٍ من الدّم.. .
ألمحُهم وأتوق !
وربَّما تكون التلقائية والبساطة والوضوح هي الصفات الغالبة على نصوصه بحيث يمكن أن نطلق على نصوصه صفة السهل الممتنع ذي الخصوصية التي تعبر عن مكنونات روحه وآماله وآلامه وعواطفه الحميمة، وكأنه يكتب نصَّه بنفَس واحد. ولا يبدو للوهلة الأولى أن مشري يشتغل على نصه، حيث لا تكاد تلحظ أنه يشتغل عليه، إذ لا تظهر الصنعة في نصوصه.
ومن المعروف أن الفنان الحق هو الذي يخفي صنعته بحيث يوهم المتلقي بان النص وُلد مرة واحدة! وأنَّه تدفق من روح الكاتب مرة واحدة بكل تلقائية دون أن تتدخّل الصنعة بالحذف أو الإضافة، حتى لا يوحي بالافتعال.
ويتوسّل الأديب الفنان مشري بوسائل قصيدة النثر بحيث يكتشف صوراً بيانية جديدة وفريدة دون أن يكرر صوراً سابقة مجتَّرة كما يحدث كثيراً في القصيدة العمودية. كما يبتكر لكل قصيدة إيقاعها الخاص النابع من أجوائها والمعاني وظلالها التي تغني المعنى والسياق الشعري جمالياً. لقد كان يبتكر لكل قصيدة إيقاعها الخاص بحيث يتدفق الإيقاع عفوياً، ولكن عين الدارس لنصه لا تخطئه. وسنأخذ هنا قصيدته « توسلات في زمن القحط» على سبيل المثال لا الحصر. فنلاحظ عند نهاية كل سطر انتهائه بياء المتكلم: غضبي.. حزني.. حرقتي.. . وجودي... إلخ مما يخلق إيقاعاً موسيقياً وهناك أيضاً مقاطع صوتية تتكرر داخلياً في جملته الشعرية ومثال ذلك تكرار كاف الخطاب المؤنثة : أدفئكِ.. ألفُّكِ.. عليكِ.. لأنَّكِ.. . أحملكِ... إلخ. ويلجأ أحياناً إلى تكرار كلمة بعينها ليستكمل الصورة التي يبدعها وهنا مثال على ذلك:
في الدروب التي تبتلع خطى الغرباء
الدروب التي تلتهم الأقدام الراحلة
تلتهم خطواتي المتكسرة..
خطواتي المعفّرة بالغربة
خطواتي المتشققة بتعب الهجرة..
وهذا يتكرر في قصائده.. وأحيانا تقوده غريزته الشعرية إلى نوع من القافية، مثل :
رحلة طائر مهاجر
داخل قفص العذاب
فبرغم أن قضبانه نُسجت من ذهب
غير أنَّه يتمنى لثمةً من تراب .
وفي موضع آخر، يقول :
تجوّلتُ..
طُفتُ بكل شوارع المدينة
انغمرتُ :
وجهاً مثقلاً بالحياء
عيناً مترعةً بالحزن والوفاء
قلباً متخماً بالهزائم والجراح، والجفاء.
إذن فالشاعر يبتكر المقاطع الصوتية التي تعطي الإيقاع الموسيقي لنصِّه لكن دون أن يلزم نفسه بالإيقاعات المحفوظة من التراث الشعري العربي التقليدي، فالقصيدة بكاملها بما فيها الإيقاع النغمي، كل ذلك من ابتكار وإبداع الفنان نفسه.
ونصّ مشري، كما في قصيدة النثر عموماً، يعتمد التصوير الفنِّي أساساً فيقدِّم اكتشافات ممتعة من ابتكاره المتفرِّد وذلك في ضمن تماسك النص وسلاسته وتلقائيته التي تترك القارئ يتمتع برعشة الشعر الأصيل. ففي قصيدته الأولى « توسلات.. « يفتتح النص بصورة مدهشة تصعِّد المعنى فتخرجه من نطاق النص العادي إلى تميز الشعر بحيث تنسجم مع مجمل رؤية القصيدة:
قرّرتُ أن أدفنك في غضبي..
ألفّك بحزني..
إنَّه لا يدفنها في أديم الأرض، ولا يهيل عليها التراب لكنَّه يدفنها في غضبه ولا يلفّها بالكفن بل يجعل حزنه عليها كفناً لها، ذلك لأن موتها الرمزي هنا ليس موتاً عادياً، إنما هو موت مجازي.
وأنفحُ فيك رذاذ حرقتي..
أيُّ رذاذ هذا ؟! فهو ليس رذاذ المطر أو الماء بل رذاذ حرقته عليها إننا نراه هنا، كما في مواضع كثيرة من نصوصه، يجمع الرذاذ إلى الحرقة ليبتكر صورته المدهشة التي تعمِّق المعنى.
قرّرتُ..
أن أغلّفكِ بنبضي الهمجي،
كطبلٍ أفريقي،
هنا يغلفها ليس بقماش بل بنبضه!! وهو ليس نبضاً عادياً.. إنَّه نبضٌ جارف، قوي متدفق.. نبض همجي !! وهمجيته تشبه همجية الطبل الإفريقي.. فانظر الربط الجميل بين الطبل الإفريقي الذي يوحي بالبدائية والهمجية، ونبضه الذي جعله غلافاً لحبيبته!! فهل قرأنا في تراث الشعر العربي برمته صورة مشابهة؟!!
إنَّه ابتكار أصيل ومتفرد وهذا من سمات قصيدة النثر التي لا تحتمل تكرار الصور كما هو الحال في الشعر العربي التقليدي وخاصة في كثير من نتاج القصيدة العمودية للمتأخرين من الشعراء.
ولو تتبعنا بقية نصوص المشري لوجدنا صوراً فنية هي اكتشافات مدهشة وممتعة تعزز قوة نصوص هذا الفنان المتفرد.خذ على سبيل المثال لا الحصر :
« عند انسلال الضوء من رغيف القمر «..
فأيّ انسلال هذا ومن أين ينسل الضوء؟.. ورغم أن القمر كان دائماً موضع تصوير وإعادة تصوير في الشعر العربي قديمه وحديثه إلا أن مشري هنا يربط بينه والرغيف !! وذلك يعطي ظلالاً أكثر من بما يرتبط الرغيف في أذهاننا من كونه الحد الأدنى لمعيشة الفقراء وبين المعنى الرومانسي المعروف للقمر.. وانظر إلى اختيار الشاعر ل « انسلال « وهذا يعني أن الليل خرج من رغيف القمر خيطاً خيطاً !! فتأملْ مقدار ما تحمل هذه الصورة من القيم الجمالية الممتعة ومن المعاني وظلالها التي لا تنتهي!! ونرى القمر أيضاً في اكتشافات أخرى للشاعر المبدع، انظرْ هنا :
« تغنيت في وجهكِ المغسول بالقمر «
هل القمر ماء ؟ أم المقصود ضياءه؟ يتغنى بوجهها المغسول بالضياء!! وهنا بعض من اكتشافات مشري الشعرية :
« ذوبي كالأريج في رمل الظلام «
«إنّ تحت غابة قلبي
قصوراً من الأشواك «
« سيدتي تنمو جدائلها على امتداد الشواطئ
على امتداد أصوات الطيور»
« لكنني مثل رمشك غافٍ
أرقص بساق واحدة .»
« رأيت انسكابات الليل
تغلّف جبين الماء ،
فانغمسَتْ انتظاراتي في بوادر الفجر..
ذابت لهفتي في جمرات الغسق ،»
وهذا غيض من فيض من إبداعات وتصوير الفنان مشري الأصيلة.
وقد غنَّى الفنان كما ذكرت سابقاً آماله وآلامه من خلال الحبيبة وضمن قصائد ولوحاته رؤاه المستنيرة المتطلعة إلى آفاقٍ حرَّة حديثة ومنفتحة على العالم . فكما كان في تصوره الشعري مبدعاً متفرداً أصيلا، كذلك كان في رسوماته الجرافيكية وموتيفاته التي اطلعتُ عليها وفي لوحاته الملَّونة القليلة التي شاهدتها للفنان.
ففي رسوماته الجرافيكية المنفذة بالحبر الصيني ( ابيض واسود ) يصور المشري بورتريهات وهي على الأغلب وجوه نساء مختلفة يقوم الفنان في معظمها بإلغاء التدرج من الأسود إلى الأبيض على طريقة مدرسة الجرافيك الروسية الشهيرة بحيث يصعد التضاد بين الأبيض والأسود فتبرز الأقسام المضاءة مستخدما بياض الورقة التي ينفذ عليها رسمه. وهذه المجموعة تبرز مقدرة الفنان على تلخيص التفاصيل لصالح التضاد ( كونتراست ).والمجموعة الثانية من رسومه الجرافيكية ( بالأبيض والأسود) نفذها الفنان كموتيفات صحفية ترافق بعض قصصه التي نشرت في الصحف أو الكتب أو هي عبارة عن أغلفة لبعض كتبه.وهنا نرى عبد العزيز مشري على عكس طريقته في رسم البورترية يقوم بتصميم التكوين أقرب إلى المدارس الفنية الحديثة كالسريالية والتجريدية فيداخل في بعضها الأشكال التي تعبر عن أفكاره ويحور في الشكل الواقعي بحيث يصل إلى ابتكار وتصميم خاص بالفنان وفكرته التي يريد تنفيذها. ولا تخلو هذه المجموعة من العوامل الجمالية العميقة من توازن الكتل في التكوين الذي يصممه الفنان في فراغ الورق الأبيض إلى دراسة العناصر المختلفة كالأيدي والعمارات والطيور كالحمام وغيره . وربما تكون تجربة مشري الصحفية ورسمه الموتيفات للمواضيع الثقافية وكذلك الوسط الثقافي الذي احتكَّ به في الصحيفة والحوارات التي جرت من قبل الشاعر علي الدميني وجبير المليحان حفز الفنان على تطوير تجربته ونقلها من الأسلوب التشبيهي الواقعي إلى أفاق أرحب من مدارس الفن الحديث كالتجريدية والسريالية. لا شك أن التجربة الجرافيكية الغنية للفنان تعتبر من التجارب المميزة التي أكدت تميز تجربته التشكيلية إلى جانب المجالات الأدبية التي اشتغل عليها الفنان. وتؤكد لوحاته الملونة كذلك فهمه العميق للون والتعامل مع فراغ اللوحة وتوزيع العناصر المختلفة بفهم جيد لأساسيات فن التصوير الزيتي رغم عدم دراسته الأكاديمية في هذا المجال . فنراه يستخدم الألوان الرئيسية في معظم لوحاته وهذا دليل هام على ذائقته الجمالية والبصرية المميزة . ومن ذلك أيضاً تعامله مع الإضاءة والتعتيم في اللوحة والتضادات بين الألوان الباردة والحارة من أجل تصعيد دراما الموضوع الذي يشتغل علية. وحملت لوحات وموتيفات الفنان الجرافيكية هموم الفنان واهتماماته وعكست بقوة تراجيديا الحياة بحلوها ومرِّها وحملت بعض الثيمات في أعماله دلالات رمزية كالعين والضوء الذي ينعكس من القلب... إلخ. وفي عمل من أعماله يصور رأس جمل في صحراء يهيمن على المشهد ويبدو الإنسان ضئيلاً بالمقارنة مع الجمل وهذا له دلالاته الرمزية التي قصد الفنان الإشارة إليها.. ولا يلجأ الفنان إلى العجينة السميكة والغنية للون بل يميل إلى التقشف وإيثار الألوان الممددة بحيث تظهر حركة الفرشاة في المساحات الملونة .
لاشك أن تجربة مشري برمتها من مجالات مختلفة في الأدب والفن التشكيلي تتميز بفرادتها وتعبيرها العميق عن موقف الفنان في الحياة والأمكنة والناس الذين عاش بينهم وتعكس بقوة موقفه الإنساني والمتنور وانفتاحه على الجديد والمتقدم من الحياة. كما تعبر تجربته الفنية عن مأساة مرضه وحزنه العميق الذي يلف الكثير من لوحاته ونصوصه. ويبقى أن نقول أن قصائد عبد العزيز مشري ولوحاته تترك في نفس المتلقي تلك النكهة الخاصة والمتعة والتأمل في جماليات وعمق المعاني الإنسانية في تجربة فنان لا يشبه أحداً سوى ذاته.
يوسف إسماعيل شغري
الدمام