- عنفوان البدايات وألقها
لو كان بمقدورنا أن نضُمّ إلى مواد هذا الكتاب، مجموعة « موت على الماء» التي أصدرها عبد العزيز مشري في عام 1979م، لانفتح الباب واسعاً أمام القارئ لمعايشة متعة الإطلالة الشاملة على مرحلة عنفوان البدايات المتألقة في حياة إبداع كاتبنا، والتي حفلت باشتغالاته في حقول متعددة ومتزامنة ومتقاطعة أيضاً: ما بين الرسم بالكلمات، والتشكيل بالريشة، والعزف بالجملة الشعرية.
وحيث إننا قد أعدنا طباعة ونشر تلك المجموعة في الجزء الأول من سلسلة أعماله الكاملة، فإننا سنكتفي بالإشارة إليها هنا، ودعوة القارئ المهتم بالبحث عنها في المجلد الأول من تلك الأعمال، والذي تم نشره على الانترنت في موقع «منبر الحوار والإبداع»، وعلى رابط ( 4 shared).
لقد تشكّلت مرحلة «عنفوان البدايات المتألقة» من تجربة خصبة في حقول إبداعية متشابكة، كان لا بد لطاقات عبد العزيز مشري المتدفقة والمتعددة أن تجرّبها معاً، لأن ما تمور به روحه الخلّاقة لا يمكن قسره على حقل محدّد، فانحاز إلى كتابة القصة القصيرة الحداثية بعد أن تجاوز تجربة السرد التقليدي، ومضى في تجريب عدّته الإبداعية للرسم بريشة القلم، بعد أن تشبّع بمرحلة الرسم الفوتواغرافي، وتوّج ذلك بكتابة قصيدة النثر، التي لا أسلاف لها في تجربته الإبداعية!
وفي نتاج هذه المرحلة، يمكننا أن نرى دلالتين بالغتي الأهمية، أولاهما: القطع مع النمذجة الفنية التقليدية في كل أشكالها،، وثانيتهما : البحث عن ممكنات الإبداع والاختلاف، عبر التركيز على فاعلية التجريد والممكن السريالي، في اللغة والرسم، وفي الشعر أيضاً.
وفي هذا المناخ ،كتب قصصه القصيرة منذ عام 75-1978م، وأصدرها في مجموعته الأولى «موت على الماء»، متزامنة ومتقاطعة في مكوناتها العميقة مع تجربة وتجريب التجريد التشكيلي (الجرافيك)، والتي نشر بعضها في تلك المجموعة، كما قام بطبع الكثير منها في كتيب صغير لم تتجاوز عدد نسخه الخمسين نسخة، بعنوان «خطوط من رحيق الريشة»، واكتفى بإهدائه إلى الأصدقاء فقط.
وفي هذا المناخ أيضاً أبدع هذه النصوص الشعرية التي تحفل بغنائيتها العذبة، وتوهج جملها الشعرية، وتدفق حرارة تجربتها الوجدانية والتعبيرية الخاصة، وقام بنشرها تباعاً في جريدة اليوم، غير أنه لم يقم بجمعها وطبعها في كتاب!!
لماذا حدث ذلك إذن، رغم حرصه الشديد على نشر كل نتاجاته، بما فيها البدايات المبكرة؟
الإجابة ستتضح في الفقرة التالية!
اُستُقبِلت مجموعة «موت على الماء» بالكثير من الاحتفاء، من قبل المبدعين والنقاد، ولكن القراء المُضمرين في تفاصيل النص أو في وجدان الكاتب، لم يستطيعوا فكّ شفراتها ولا الانفعال بها، كتجربة تحفل بانشغالاتهم اليومية والقروية، مما دفع الكاتب إلى التأمل والمراجعة ومن ثم التوقف عن الاستمرار في إنتاج النص القصصي لسنوات عديدة!
وقد طالت هذه الوقفة ريشة الرسم وكتابة القصيدة معاً، وربما لنفس الأسباب.
وخلال أربعة أعوام من التأمل والمراجعة، أعاد فيها النظر في وظيفة الفن والفكر، وانحاز بعد ذلك إلى مجال الواقعية النقدية، التي وجد فيها أفقاً إبداعياً آخر، يحفظ للنص موقعه في وجدان المتلقي العادي، مثلما يحمل رؤى الكاتب وبوصلة استشرافه، فمضى للبحث عن لغة تتشكّل جمالياتها من الإحالة على الواقع اليومي أو المختزن في الذاكرة، مستلهماً شعريتها من المفارقة الساخرة، ومن البعد الدرامي، ومن الكون التعبيري للتجربة الإنسانية المتعددة القراءات والأبعاد، وهنا غاب التركيز على القصيدة واندمجت محفزاتها الوجدانية والتعبيرية في نهر السرديات (القصصية القصيرة، والروائية، حيث أنتج ست مجموعات قصصية، وسبع روايات، في أقل من عشرين عاماً)، كما عاد في سنواته الأخيرة لاستخدام الريشة واللون لرسم لوحات تنتمي إلى ما يمكن تسميته «بالواقعية الرمزية».
وهكذا تأتي رحلة القطيعة المعاكسة لتجربة «موت على الماء»، ولتجربة هذا الكتاب في الشعر والتشكيل، حيث اختار عبد العزيز في مرحلة التأمل، والتي توّجت ببقائه القسري في القاهرة لمدة عام ونصف - لأسبابٍ سياسية - أن يمسك بالخيط الذهبي الذي كان يبحث عنه، فرأى في تكوين القرية الاجتماعي وفي موروثها الشعبي، مثلما رأى في الواقع اليومي، إمكانات أكثر تعبيراً عن جمالية وشعرية غمس اليدين في مياه تجربة دراما حياة الإنسان العفوية والقلقة والصعبة، بديلاً عن شعرية المتخيل السردي والتجريد اللغوي، التي بدت تجلياتها في مجموعة « موت على الماء «، مثلما نتأملها في هذا الكتاب، الذي يعود إنتاج مواده ( شعراً وتشكيلاً) إلى نفس تلك المرحلة.
2- تحرير النص من «مخطوطته»
حين تقف على ديوان عبد العزيز مشري «توسلات في زمن الجفاف»، الذي خطّه بقلمه وأخرجه في مجلد صغير، محتفظاً بنفس العناوين التي رسمها خطّاط الجريدة التي نشرت تلك القصائد، سوف تتساءل معنا : هل نقدمه كنصوص شعرية وحسبْ، أم نقدمه كمخطوطة؟
ذلك هو السؤال الشائك الذي وضعنا في مجموعة « أصدقاء الإبداع - أصدقاء عبد العزيز مشري» أمام حيرة يانعة بتعدد الممكنات، والمحاذير في نفس الوقت!
ترى هل أراد لنا عبد العزيز أن نقع في هذه الحيرة، في ضوء ما نعرفه عنه من حبٍ للمواقف الساخرة وإجادة حبكتها؟
أم أنه قد حسم اختيار طريقه الإبداعي في السرديات، ونسي هذه النصوص التي سكت عن نشرها في ديوان؟
أم تراه كان سيعود إلى نشرها لاحقاً، لو أمهلته المنيّة، سيما وقد عبّر عن احتفائه بها من خلال تدوينها بخط يده، وإخراجها بشكل أنيق؟
كل هذه الاحتمالات واردة، ولكننا حين نرى إغفاله لها طوال حياته، سنميل إلى تحليلنا السابق، من أنه قد حزم أمره على الخروج من الشعر ومن توظيف الطقس الشعري في الكتابة القصصية، والذهاب إلى أعماق الواقع، الذي رأى فيه فضاءً أكثر غنىً بممكنات الشعرية الكنائية المادية، كبديل عن الشعرية الاستعارية وفضاءاتها التجريدية.
المادة، الحركة، الصراع، المقابلات، داخل سيرورة الحياة، غدت - عنده - أكثر قدرة على التعبير عن رؤيته الواقعية النقدية، فأصبح الإبداع تمثلاً لجمالية التعبير عن الحياة بتفاصيل الحياة ومفارقاتها، وليس بالمتخيل السردي أو التجريد اللغوي.
و رغم موقفه من تلك المرحلة، شديدة الثراء والخصوبة في تشكيل مرتكزاته الإبداعية، فقد رأيت أن وقفتي على هذه النصوص ينبغي أن تكون وقفة إيصال جوهر النص إلى القارئ في لحظته الراهنة، لا وقفة الوفاء للمخطوطة، رغم ما تحفل به - بحد ذاتها - من جماليات.
لقد مضى على كتابة هذه القصائد أكثر من 35 عاماً، ظلّت فيه حبيسة بين دفتي مخطوطتها، ولكنني أقرأ فيها تجربة شعرية، في حقل قصيدة النثر، ما زالت تحتفظ بحرارة التجربة، وطزاجتها، وأزعم أن شاعرها لو أراد موضعة نفسه في هذا الحقل ،لأبدع فيه ولأصبح - بعد تجربة الشاعرة الرائدة فوزية أبو خالد - من المؤسسين لشعرية قصيدة النثر في بلادنا، مثلما أبدع في حقول السرديات، ولكنه لم يشأ الذهاب بعيداً، في ذلك الاتجاه.
*****
كانت الفكرة الأساسية لدي ولدى شقيقه أحمد مشري، تتفق على تصوير مخطوطة هذا الديوان، كما هي، وإصدارها، ضمن سلسلة الأعمال الكاملة، ولكنني حين تصفحتها جيداً رأيت أن عبد العزيز قد أجرى على بعض المقاطع الشعرية تعديلات وتشطيبات بالقلم الأحمر والأزرق، مما يعيق نشرها كما هي .
وإزاء هذه الإشكالية الفنية المعيقة لتصوير النص الأصلي، إضافة إلى وجود الكثير من الأخطاء الكتابية، تزحزح موقعي قليلاً من أسر الوفاء المطلق للمخطوطة إلى فضاء الوفاء للشعر، ورأيت أن أعيد طباعتها والقيام بتشكيل بعض مفرداتها، وحذف بعض جملها، أو فقراتها، ليأخذ النص موقعه الآني في سياق نصنا الشعري، بدون أخطاء مخلّة بجمالية نصه الأصلي .
ولكي يعايش القارئ معنا جمالية تدوين عبدالعزيز مشري لنصوصه بقلمه وخطّه الأنيق، عمدت إلى تصوير مقاطع من كل قصائد الديوان لتأخذ موقعها في سياق جسد القصيدة المطبوعة، كما حرصت على تصوير عناوين القصائد كما هي في المخطوطة، بما في ذلك ما خطه بنفسه حين لم يجد العنوان المخطوط في الجريدة، وكما أضاف لها عبد العزيز من تخطيطات جمالية .
وبعد....
هذه إيضاحات واجتهادات أتحمّل تبعاتها وحدي..
وهذا كتاب يضم جزءاً مهماً من اشتغالات عبد العزيز مشري، في الرسم بالكلمات، وفي العزف على ريشة التشكيل..
ولم يتبق لي هنا سوى أن أفتح الباب لقراءة «مقدمة تحليلية» ضافية لهذا الكتاب، أعدها صديقنا يوسف شُغري، الشاعر والناقد التشكيلي السوري، المعروف.
من أعضاء مجموعة
«أصدقاء الإبداع - أصدقاء عبد العزيز مشري»
الدمام