** لا يمكن لوم الرقيب في فترةٍ لم تكن الأفضلَ في حياتنا الثقافية، فقد كانت رياساتُ التحرير مساءلةً عن كل زاويةٍ ومقالٍ وتقريرٍ وخبر، وفي الحكايات أن كاتبًا مُدح لرأيٍ عرضه ثم حوسبَ عليه لاختلاف القراءات الإشرافية، وتأبط مسؤولٌ قرار إقالةِ مبدعٍ ذي منصب ليسلمه بنفسه لمذيع النشرة حرصًا وربما خوفًا، وفُصل رقيبُ مطبوعات لتمريره مقالًا عاديّا قلبناهُ على كل وجوهه فلم نجد فيه ما يمسّ شخصًا أو تنظيمًا.
** ولو قدر لباحثٍ دراسةُ الطرح الصحفي تلك الفترة لرآها فترةً حرجةً ألجأت بعضًا للرمز وبعضًا للمز؛ فالالتفافُ هو القاعدة والاستقامةُ هي الاستثناء الملجئةُ للانحناء أمام معطياتِ الريح حيث هبت فسارت وثارت.
** فهي إذن مرحلةٌ لا فرد ورحلة وليس محطة، وما كان فيها من تجاذبات الحداثة والتقليد ضيّق الخناق على الرأي النائي عن صراعهما، وبمقدار ما احتدّ هؤلاءِ خفت أولئك فتدجّن الرأي المجتمعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وخلا بالميدان رموز التقليد والتجديد، ولها مثلما لهث الناس خلفهم، وصارت المنابر حراكًا أو لنقل عراكًا بين تيارين بارزين ومتبارزين.
**أعطى صفحته «قراءة في مكتبة» جلّ وقته، وكانت نافذتَه التي أطلّ منها على المجتمع الثقافي، وتعرف على رموز الفكر والأدب حينها، ويذكر أنه ابتدأ بالشيخ حمد الجاسر وثنّى بالشيخ عبدالله بن خميس وكان الشيخ عبدالله بن إدريس ثالثهم والشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل رابعهم والشيخ عبدالكريم الجهيمان خامسهم، وتلاهم كثيرون سيأتي وقتٌ لذكرهم.
** يذكر أنه احتفى كثيرًا بمرافقيه أو مرافقهم من المصورين؛ وفيهم الزملاء: حسين حمدي والتهامي عبد الرحيم وعبدالباقي محمد، لكن معظم حواراته تمت برفقة عمدة المصورين الصديق فتحي كالي الذي وعى اسمه مبكرًا حين كانت «الجزيرة» وحدها جريدته أيام الصبا والشباب وخلال فترة البعثة في الغرب الأميركي، وبقيت - مهما تبدلت أحوالها- أثيرتهُ التي لا يبغي عنها حولا، وكان اسم أبي العبد بارزًا ولا سيما في صفحات «ضيف الجزيرة».
** اعتنى بتوفير مسجل صغير ووسوسَ في إعادة تجريب عمله كيلا يحرجَ مع ضيفٍ ويكتشف أنه يحوي الهواء أو الخواء ويسلم الشريط لقسم الاستماع ثم يتولى إعادة الصياغة بما لا يؤثر أو يثير وليضمن الحدّ الأدنى من اللغة الفصيحة، ولكن لقاءه مع أديب كبير لم يمرّ بهدوء حين اقتنص جملةً أثنى بها على مؤلّفٍ له فجعله متفوقًا - بما كتب حوله- على ما كتب عن طه حسين؛ ما دعا القراء المتواصلين مع الشيخ يلومونه؛ فاتصل بالمحررِ الشاب نافيًا وطالبًا منه النفي فلم يستجب وأكد حرْفيةَ ما قال استنادًا للتوثيق المسموع والمكتوب، ورفض الاعتذار عما لم يقترفه من تصحيف؛ فلجأ الضيف لرئيس التحرير بخطاب مكتوب نشر على عدة أعمدة في «عزيزتي الجزيرة» مكذبًا أنه قد قال ما قال، وأفهمه أستاذه الكبير أبو معتصم ألا ضيرَ عليه لا قتناعه بصدقيته ورغبته في الآن ذاته بترضية الشيخ؛ وماذا بمقدور شاب لم يبلغ الثلاثين إلا أن ينيب عنه أبا الطيب ويقول بلسان الحال والمقال: «فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ»؛ وكانت تلك فاصلة علاقة حميمة بشيخه الجليل، وعرف أن ما ينشر لا يتوازى دومًا مع ما هو حق.
** سارت به الأيام في صفحته التي غطت على نشاطه في تحرير أدب وثقافة - كما كان اسمها- وابتسم له الحظّ قليلًا حين قابل شخصيةً متواريةً لكنها ثريةٌ جعلت كثيرين يلتمسون معلوماته كي يتواصلوا معها؛ ولهذا حكاية تجيء إذا شاء الله.
Ibrturkia@gmail.com
twitter:@abohtoon