هي - دون شك - ثقافة هذا القرن، وهي أيضاً - بلا منازع - أحد ضروريات الحياة المعاصرة. فالإنسان، منذ عقدين من الزمان تقريباً، أصبح عنصراً رقمياً، وبشكل متصاعد - مختلف في تصاعديته حسب المجال وتقدم البلد في هذا المجال - لكنه أضحى معروفاً برقمه الوطني، وبياناته المخزنة، في مراكز الإحصاء أكثر من كونه معروفاً باسمه وشخصه.
يا للهول! هل تحققت نبوءة جورج أورويل في رواية Animal Farm، التي كتبها مع نهاية الحرب العالمية الثانية متنبئاً فيها بما سيحدث مع نهاية حقبة ستالين، وهو (أي الروائي) ديمقراطي اشتراكي، كان معارضاً لجوزيف ستالين، ومعادياً للستالينية - بشكل عام - خاصة بعدما شاهده من آثار تغلغل السياسات الشيوعية (من اعتقالات غير مبررة، ورقابة على الإعلام، وكثرة عناصر البوليس السري) في حياة الناس. حيث يعد الشيوعية في ذلك الوقت ثورة مضادة خلال الحرب الأهلية الإسبانية؛ مع أن الروائي المبدع لم يخاطب فساد الثورة من خلال قياداتها، بل عبر عناصر الشر فيها، وعدم تماهيها مع اهتمامات الناس، وتجاهلها لحياتهم وأوضاعهم المستقبلية، والطمع في التمكن من مفاصل القوة. لكنه - بمهارة فائقة - قد أوضح، كيف يؤدي إهمال طموحات الناس، وتجاهل أحلامهم، وتراكم مشكلاتهم، في مسار ثورة ما إلى أوضاع مرعبة؛ لأن الناس تثور من أجل انتقال مريح في حكم أنفسهم، وما لم يحصل ذلك يفقدون الأمل في كل قيادات الثورة ومبادئها.
لكن نسقية تلك النبوءة لدى الكاتب تطورت بشكل لافت في روايته الأخرى Nineteen Eighty-Four التي خصصها لتصوير مجتمع يعيش في المحيط، وتحكمه أقلية مستبدة؛ تتحكم فيه عن طريق مراقبة لصيقة، مع نظام سياسي رديء. وتُعامل فيه النخبة خلاف ذلك، إذ تُخضع جميع الإمكانات لسيطرتها، مما يحول ذلك النظام إلى عبادة شخصية لما أسماه Big Brother. وقد كون ونستون سميث (الشخصية البارزة في هذه النخبة) وزارة للحقيقة Ministry of Truth (Minitrue)، تكون مسؤوليتها الدعاية وإعادة كتابة التاريخ، لكي يتوافق مع ما تصنعه النخبة في هذا المجتمع، وما تقرره عقيدة له. ومع تمرد سميث على سلطة الأخ الكبير (Big Brother)، يصور أورويل الخيانة الرسمية لمبادئ العرف السياسي والاجتماعي، وطرق المراقبة السرية، وابتزاز الماضي في خدمة أهداف الدكتاتورية وسياساتها.
هذا كله فيما يخص نبوءة الكاتب بما ستؤول إليه الأمور في نهاية القرن العشرين؛ والطريف أنه قد حدّد سنة 1984م، لتكون بداية تحقق هذا الكابوس المرعب. ففي تلك الحقبة بالذات كان قد تحول الحاسب من مراكز مؤسساتية إلى آلة شخصية، ومع هذا الابتكار بدأت حقبة الثقافة الرقمية التي أصبحت آسرة لنا، أكثر من كونها في خدمتنا.
فهل وقف أحدكم مشدوهاً أمام منظر أولاده أو زوجته، وهم يتعاملون مع تلك الطرفيات، وكأنها مصادر إلهام لكل المراكز العصبية لديهم؟ هل لاح بعضكم العجز في التواصل مع أغلب المتفاعلين مع هذه الثقافة؟
هذا عدا عن القدرة الهائلة حالياً لتحكم الأخ الكبير بك عن بعد، وكونك قد أصبحت رقماً كغيرك من الكائنات، بل ومن الأشياء في تلك الآلة الصماء. فكيف ستكون علاقاتنا المستقبلية مع تلك المخازن التي تحفظ دقائق خصوصياتنا، وتملي على الموظف الذي ينقر على الأزرار الخطوات التي عليه أن يتبعها، والطريقة التي عليه أن يتعامل بها معنا، بل وربما كيفية استقبالنا. وقد تصل الأمور إلى معرفة الأمور التي نفكر فيها. أما عن واقع الثقافة الرقمية في شؤون حياتنا المختلفة، ومدى تأثيرها في حياة الإنسان المعاصر، وكذلك في مستقبله، فهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة.
الرياض