(مراجعات نقديّة: القافية)
عَرَفَ الشِّعرُ الجاهليُّ ظواهر تتعلّق بالتقفية ربما أشبهت القصيدةُ بسببها الشِّعرَ المرسَلَ، غير أنها ظلّت هامشيّةً- كما أشرنا في المساق السابق- لأنها إنما كانت تَرِد بين حروف الرَّوِيّ المتقاربة المخارج غالبًا، وهي معلَّلة بالأُمّيّة لدى مستعمليها، وعدم التفريق بين الأصوات اللغويّة؛ ولذلك كانت مستنكَرةً معيبةً لدى نَقَدَة الشِّعر، نادرة الحدوث من كبار الشعراء. ومن تلك الظواهر ما تحدّث عنه (الأخفش)(1) مطوَّلًا في كلامه على (إكفاء القوافي)، وهو مجيء الرَّوِيِّ على حروفٍ مختلفة؛ إذ قال: «زَعَمَ الخليلُ أن الإكفاءَ هو الإقواءُ. وقد سمعتُه من غيره من أهل العِلم. وسألتُ العربَ الفصحاءَ عن الإكفاء، فإذا هم يجعلونه الفسادَ في آخر الشِّعر، والاختلافَ، من غير أن يَحُدُّوا في ذلك شيئًا. إلّا أنني رأيت بعضهم يجعله اختلاف الحروف. وأنشدتُه:
كأنَّ فا قارورةٍ لم تُعفَصِ
منها حِجاجا مُقلَةٍ لم تَلخَصِ
كأنِّ صيرانَ المهَا المُنَقِّزِ
فقال: هذا إكفاءٌ. وأنشده آخرُ قوافيَ على حروفٍ مختلفةٍ، فعابَه، ولا أعلمه إلّا قال: قد أكفأتَ. إلّا أنني رأيتُهم إذا قَرُبَت مخارجُ الحروف، أو كانت من مخرجٍ واحدٍ، ثم اشتدّ تشابُهها، لم يَفطَن لها عامَّتُهم. والمُكفَأُ في كلامهم هو المقلوبُ. وإلى هذا يذهبونَ. قال الشاعر، وسمعتُه من العرب:
ولمّا أصابتني منَ الدهرِ نَبوَةٌ
شُغِلتُ، وألهَى الناسَ عنّي شؤونُها
إذا الفارغَ المكفيَّ منهم دَعَوتُهُ
أَبَرَّ ، وكانت دَعوةً يستديمُها
فجعل الميمَ مع النون لشَبَهها بها؛ لأنهما يخرجان من الخياشيم. وأخبرني مَن أثقُ به من أهلِ العِلم أنَّ بِنتَ أبي مُسافعٍ، امرأةً من العرب، قالت ترثي أباها، وقُتِل وهو يحمي جيفةَ أبي جهل:
وما لَيثُ غَرِيفٍ ذو
أظافير وإقدام
كحِبِّي إذ تلاقَوا، و
وُجُوهُ القومِ أقران
وأنتَ الطاعنُ النَّجلا
ءَ ، منها مُزبِدٌ آن
وفي الكفِّ حُسامٌ صا
رمٌ أبيضُ خَذّام
وقد تَرحَلُ بالرَّكبِ
وما تُخنِي بصُحبان
جَمَعَت بين النونِ والميم لقربهما، وهو فيهما كثيرٌ. وقد سمعتُ من العرب مثل هذا ما لا أُحصي. وسمعتُ الباءَ مع اللامِ، والميمَ مع الراء، كلّ هذا في قصيدة. قال الشاعر:
ألا قد أرَى إن لم تكن أُمُّ مالكٍ ** بمِلكِ يَدِي أنَّ البقاءَ قليلُ
وقال فيها:
رأى من رفيقَيهِ جَفاءً، وبَيعُهُ
إذا قامَ يبتاعُ القِلاصَ ذَمِيمُ
خليليَّ حُلاَّ واترُكا الرَّحلَ إنَّني
بمَهلَكَةٍ ، والعاقباتُ تَدُورُ
فبَينَاهُ يَشري رَحلَهُ قالَ قائلٌ:
لِمَن جَمَلٌ رِخوُ المِلاطِ نَجيبُ؟
وهذه القصيدة كُلُّها على اللّامِ. والذي أنشدَها عربيٌّ فصيحٌ، لا يَحتشمُ من إنشاده كذا. ونهيناه غير مَرَّة، فلم يستنكر ما يجيء به. ولا أرى قولَ الشاعر:
قد وَعَدَتني أُمُّ عَمرٍو أن تَا
تَمسَحَ رأسي ، وتُفَلِّيني وَا
وتَمسَحَ القَنفاءَ حتَّى تَنتَا
إلَّا على هذا؛ لأنَّ قوله (أن تا) أَخَذَ التاءَ من (تَمسَح)، وكانت مفتوحةً فزادَ معها الألفَ، ثم أعادَها حين قال (تَمسَح). وكذلك الذي في (وتُفَلِّيني وا)(2)، إنما هي الواوُ التي في (وتَمسَح القَنفاءَ)؛ جَعَلَ ما قبلَ الألف حرفَ الرَّوِيِّ، وخالف بين الحروف، لأنَّ التاء قريبةُ المخرجِ من الواو، وليست بأبعد من (الواوِ) من (الراء واللّام) من (الباء) في قوله (قليلُ) و(تدورُ) و(نجيبُ) (3). وهذا من أقبحِ ما جاءَ، لبُعدِ مخارجها. فأمّا الميمُ والنونُ واللّام فكثيرٌ. وعلى ذلك قول أبي جهل:
ما تَنقمُ الحربُ العوانُ مِنِّي
بازلُ عامَينِ حديثٌ سِنِّي
لِمِثلِ هذا وَلَدَتني أُمِّي
فما قَبلَ الياء هو حرفُ الرَّوِيِّ. ولا يجوز أن يكون الياءُ رَوِيًّا، وإن كان في الشِّعر مُقَيَّدًا(4)؛ لأنَّ العرب لا تُقَيِّدُ شيئًا من الشِّعرِ تصلُ إلى إطلاقه في اللفظ إلاَّ وهو بين ضَربٍ أقصرَ منه، وضربٍ أطولَ منه، نحو (فعولُ) في المتقارب بين (فعولُن) وبين (فَعَل). فلا تكونُ لذلك الياءُ حرفَ الرَّوِيّ لوصولهم إلى إطلاقها بأن تقول: مِنِّيَا، وسِنِّيَا، وأُمِّيَا(5). وأخبرني من أثقُ به عن ابن العَجّاج أنّه قال:
قُبِّحتِ مِن سالفةٍ ومِن صُدُغ
كأنّها كُشيَةُ ضَبٍّ في صُقُع
جعل إحداهما عينًا، والأخرى غينًا. وأمّا يونس فروَى عن أبي عمرو أنَّه جعلهما غَينين، وقال: لولا ذلك لم أروِهما. ورَوَى عن العرب:
فليت سِماكيًّا يَحارُ رَبابُهُ
يُقادُ إلى أهلِ الغَضَا بزِمامِ
فيَشربَ منه جَحوَشٌ، ويَشيمَهُ
بعَينَي قُطامِيٍّ أَغَرَّ يَمانِ
فجاءَ بالميم والنونِ. وسمعتُ منه:
أَأَن رُدَّ أجمالٌ ، وفارقَ جِيرَةٌ،
وصاحَ غُرابُ البَينِ ، أنتَ حَزينُ
تنادَوا بأعلَى سُحرَةٍ ، وتَجاوَبَت
هَوادِرُ في ساحاتِهم وصهيلُ
فَرَدَدنا عليه هذا غيرَ مَرَّةٍ، والبيتين الأوّلين على نَفَرٍ من أصحابه ممّن ليس بدونه؛ كلُّهم لا يستنكر هذا. والقصيدة الأولى على الميم... قافيتُها مكان (يمانِ): (شآمِ)، والثانية على النون، مكان (صهيلُ): (حنينُ)(6). وكثيرٌ منهم يُسمِّي هذا (الإكفاء) كما ذكرتُ لك، وإنّما الإكفاء المخالفةُ... وليس قولهم في قول الشاعر:
بالخَيرِ خَيراتٍ وإن شرًّا فا
ولا أريدُ الشرَّ إلاَّ أن تا(7)
إنه أراد الفاء والتاء بشيءٍ... وكيف يريدون هذا وهم لا يعرفون الحروف. ولا يجوز أن تَجعل ألف المدِّ رَوِيًّا، نحو «الرَّجُلا». لو جاز هذا لجازت الياءُ والواوُ الزائدتان أن تكونا رويًّا، نحو «الرَّجُلُو» و»الرَّجُلي». وهذا لا يقوله أحدٌ من العرب، ولم يجئ في شيءٍ من الشِّعر، ولكن ما قَبل الألف هو حرفُ الرَّوِيِّ، وخَالَفَ ما بين الحروف، كما قال الشاعر:
إذا نَزَلتُ فاجعلاني وَسَطا
إنِّيَ شَيخٌ لا أُطيقُ العُنَّدا
وهذا كثيرٌ. وقد ذكرنا قبل هذا أبياتًا كثيرةً في هذا الباب سمعناها من العرب... ومَن قال: إنه أرادَ بقوله: (وتُفَلِّيني وَا) الواوَ، لكنَّه رَخَّمَ، قيل له: وكيف يُرَخَّم اسمٌ على ثلاثة أحرف؟ لم يجئ هذا في شيءٍ، ولم يقله أحدٌ في قياسٍ إذا كان الثاني ساكنًا أو متحرِّكًا. والبغداديّون يُرخّمون (عُمَر). وجميع ما ذكرنا من هذا المختلِف الرَّوِيِّ إنما هو: غَلَطٌ. وهو يُشبه من الكلام: «هذا جُحرُ ضَبٍّ خَرِبٍ».»
وإنما أوردتُ هذا الشاهد الطويل لأُبيّن أنّ تلك الظواهر كانت مرصودةً في تراثنا، وبتفاصيلها المتباينة، والغريبة أحيانًا، منذ القرن الثاني الهجريّ، أي مذ أوائل العَروضيّين. غير أن أولئك كانوا يميّزون محضَ الغَلَط ممّا له وجهه الفنِّيّ، والشاذَّ ممّا يُمثِّل المطَّردَ في أعراف العرب الشِّعريّة. ويُفرِّقون بين ما ساغَ للأعراب، لأُمّيتهم، وما لا يسوغ لغيرهم.
وفي المساق الآتي مناقشةٌ حول (الذاكرة الذوقيّة العربيّة)، وما يمكن أن تحتفظ به من الشِّعر.
***
(1) أبو الحسن سعيد بن مسعدة (-215هـ= 830م)، (1970)، كتاب القوافي، تح. عِزّة حسن (دمشق: مديريّة إحياء التراث القديم)، 43- 53.
(2) في الكتاب: «الذي في (وتُفَلِّيني)».
(3) في الكتاب المحقَّق وَرَدَ النصّ هكذا: «وليست بأبعد من الواوِ من الراءِ، واللّامِ من الباءِ في قوله...». فجعلناه بأقواس، وعدّلنا علامات ترقيمه، بما يُعِين على فهم مراد المؤلِّف: أن ليس مخرج التاء بأبعد عن مخرج الواو من مخرجَي الراء واللام عن مخرج الباء؛ أي تلك الحروف الثلاثة الواردة في رويّ القطعة الشِّعريّة التي استشهد بها من قبل.
(4) في الكتاب: «مُقَيَّدٌ».
(5) كلامه ملتبس هنا. والخلاصة: أن الياء التي تصلح أن تكون رَوِيًّا هي فقط: (الياء الأصليّة، المكسور ما قبلها)، كياء: عليّ؛ تنقضي؛ البهيّ، في قصيدة عُمر بن أبي ربيعة:
قَد صَبا القَلبُ صِبًا غَيرَ دَني
وَقَضَى الأَوطارَ مِن أُمِّ عَلِي
وتلحق بها (ياءُ النَّسَب المشدَّدة). كالرَّوِيّ في قصيدة ابن زريق:
يومنا يومٌ بالوصالِ هَنِيُّ
فَخرُهُ مِن رباربٍ رَبَوِيُّ
(6) معنى هذا أن الخطأ في الرواية، لا من الشاعر. وربما تَقَوَّلوا على الشعراء، لإظهار علمهم بشوارد وغرائب لم يسمع بها سواهم!
(7) معناه: «إن شرًّا فشرٌّ، ولا أريدُ الشرَّ إلاَّ أن تريده». (انظر: المرزباني، أبو عبدالله محمّد بن عمران (-384هـ)، (1965)، الموشّح في مآخذ العلماء على الشعراء، تح. علي محمّد البجاوي (القاهرة: دار نهضة مصر)، 15). «قال: فسألتُ الأصمعيَّ عن ذلك، فقال: هذا ليس بصحيحٍ في كلامهم، وإنما يتكلّمون به أحيانًا. قال: وكان رجلان من العرب ربما مَكَثا عامّةَ يومِهما لا يتكلّمان؛ قال: ثم يقول أحدهما: «ألا تا؟»، يريد: «ألا تفعل؟»؛ فيقول صاحبُه: «بلَى فا!»، يريد: «فافعل!».»
الرياض
p.alfaify@gmail.com - http://khayma.com/faify