Culture Magazine Thursday  17/03/2011 G Issue 335
كتب
الخميس 12 ,ربيع الآخر 1432   العدد  335
 
اليماني القدرة (1)
د. نجاة محمد الصائغ

من أجمل الكتب المؤرخة للأفراد كتابة السير والتراجم التي نقلت لنا عبر عصور شخصيات كان لها فعلها وخصائصها التي تميزت بها ولشدة ما نقل وذكر عنها كدنا نشعر بوجودها بيننا حتى أن البعض ما زالت بعض الشخصيات التاريخية هي قدوته التي تمسك بأخلاقها وصفاتها وسلوكها الاجتماعي.

اتفقت غالبية كتب السير والتراجم الموجودة على نقل معلومات عامة لما يقوم به المترجم له حيث يتم التركيز على مولده ونشأته، حياته علمه وطلابه، نشاطه العلمي والاجتماعي، دوره السياسي وما تعرض له من صعوبات، ثم عرض لجميع إنتاجه العلمي والفكري وفائدة هذا الإنتاج بالنسبة للبشرية.

وما زالت الكتابة في هذا الجانب مستمرة حتى وقتنا الحالي لأن هذا العمل ينطوي على قدر كبير من الأهمية فهو ينقل حراكاً تاريخياً لمرحلة قد يغيب منها بعض الوقائع بصورة مقصودة من خلال ما يطلب تناوله من المؤرخون في مراحل بناء المجتمعات.

ومع تطور فعل الكتابة سواء كان للتاريخ أو النصوص، أو البحوث، أو الدراسات العلمية وتغير نمط التفكير لدى الكتاب والمؤرخين والمثقفين والتركيز على التحليل والنقد في الوقائع وسلوك المجتمعات دخلت عملية كتابة السير والتراجم مرحلة جديدة لم تكن في جميع الإنتاج الفكري لكنها تميزت لدى كتاب عرف عنهم التطوير المستمر في منهج الكتابة وسرد النصوص والقراءة والتحليل، ومن الكتب التي وجدت فيها منحى أضاف لكتب السير والتراجم منهجاً جديداً ومفيداً للمتتبعين لرجالات مراحل التاريخ كتاب «اليماني القدرة» لمؤلفه الدكتور زهير محمد جميل كتبي. الأديب والكاتب المعروف. الذي اشتهر منهجه في الاهتمام بهذا النوع من الدراسات والكتب التي تهتم بالسير والتراجم وله أكثر من عشرين كتاباً في هذا المجال منها: كتاب العطار. تصريف مياه الأمطار بالعاصمة المقدسة. مكة المكرمة.. الوضع الفريد. المناخ في التراث الإسلامي. رجال من مكة المكرمة، الفقي.. فيلسوف الحجاز، رجال من مكة المكرمة.

كتاب «اليماني القدرة» يعد من كتب السير والتراجم لكنه تجاوز سيرة رجل إلى ربط سيرة الرجل بوصف تاريخ مرحلة من حيث السلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع الفكر السياسي للنظام الحاكم، الواقع الديني بممارساته المتطرفة والوسطية، وهذا ما لم يتم التطرق له في كتب السير والتراجم التي اطلعت عليها وسوف أتناول فصول الكتاب موضحة جوانب الإضافة والتجديد التي حرص عليها الكاتب وقيمتها من وجهة نظري العلمية والتاريخية.

أولاً: الوصف الشكلي للكتاب:

يقع الكتاب في 232 صفحة من الحجم المتوسط، تميز بطباعة واضحة ودقيقة، تقريباً خلا الكتاب من الأخطاء المطبعية، استخدم الورق الفاخر في طباعته وتميز الغلاف بطبقتين، الغلاف السميك المتعارف عليه ثم غلاف آخر يحمل جميع بيانات الغلاف الأساس، صورة المترجم له معالي الدكتور محمد عبده يماني من خلال سواد الغلاف الذي يحيط بالصورة فأظهرها مشعة كأنها تخاطب من يحمل الكتاب، وقد توفق الكاتب في هذا الإخراج والتزامه باللونين الأبيض والأسود الذي أعطى الكتاب جمالاً وقيمة وفخامة.

ثانياً: محتوى الكتاب:

يضم الكتاب خمسة فصول يسبقها الإهداء والتوطئة والمقدمة وتعريفات لمعنى مصطلح «القدرة» التي وسم بها الكاتب اليماني الشخصية المترجم لها، وسوف أتناول هذا الجزء من الكتاب بحسب ترتيبه محاولة توضيح ما ذكرته من تلازم ما جاء في الكتاب مع تاريخ المرحلة.

1- الإهداء: جاء لشخصية ترتبط بالدكتور محمد عبده يماني في بعض التوجهات المرتبطة بخدمة الوطن والمجتمع ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الكاتب يشير ويؤكد على أن بين بعض رجال الدولة وبعض الاقتصاديين ورجالات المجتمع الكبار علاقة تخرج عن نطاق العمل الحكومي فهم يلتقون فكرياً وثقافياً وتربطهم علاقات لها خصوصيتها الفكرية والثقافية، ويرتفع سقف فعل الخير لديهم. فكان الإهداء للشيخ مرعي بن محفوظ رجل الأعمال المعروف.

2-توطئة: توجه بها الكاتب لأبناء المترجم له والكلمات التي تحمله التوطئة تدل على أن المرحلة التي عاش فيها اليماني ما زالت تحمل قيماً راقية في السلوك الإنساني فالمجتمع ما زال يرى أن السمعة النظيفة، وحب الناس، وفعل الخير هي المؤشر الذي يرفع رصيد الشخص في المجتمع، وهذا جزء من تاريخ ثقافة المرحلة يخدم راصدي التاريخ مستقبلاً.

3- تعريفات: وقد ذكرت في الفهرس بعد المقدمة بينما هي في الكتاب قبل المقدمة لكن موقعها ليس له تأثير على سير الكتاب فقد أراد منها الكاتب تعريف القارئ بمفهوم مصطلح القدرة ولماذا اختاره ليرتبط باسم الشخصية التي كتب عنها، وأعتبرها شخصياً جزءاً إضافياً في كتابة السير والتراجم فقد يأتي زمن تفقد فيه الكلمات معانيها أو تفسر بغير ما كانت عليه كما نجدها الآن وهذا التوثيق يعطي المطلع مفهوم المصطلح وعلاقته بالمترجم له في المرحلة التي تم تدوين الكتاب فيها.

وفي نهاية التعريفات تناول السيرة الذاتية للمترجم له ولا أجد موقعها هنا مناسباً لأنها جاءت بين تعريف المصطلح والمقدمة حتى توظيفها في سياق المكتوب لا يرتبط بما كانت بينهم فلو أن الكاتب وضعها في بداية المقدمة وبنى عليها مقدمته أو في بداية الفصل الأول لتكون مرتبطة بما تناوله الكاتب في الفصول، ربما كان للكاتب هدف لم أدركه لوضعه للسيرة الذاتية للمترجم له في هذا الموقع من الكتاب. ووضع المؤلف مقولة في بداية كل فصل من فصول الكتاب كتعريف مضغوط عن اليماني ومحتوى الفصل.

4- مقدمتي: جاءت مقدمة الكاتب مليئة بوصف ما كانت تتسم به المرحلة التي كتب فيها كتابه وقد حدد بوضوح التالي:

* النزاع الواضح بين المتطرفين من رجال الدين والمجتمع.

* ظهور مثقفين يحملون فكراً متنور وحراً يسعون للإصلاح.

* تأسيس مشروع نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* آليات وطرق فعل الخير التي يمارسها الميسورون من المجتمع المكي.

* تصوير لشرائح المجتمع المكي.

* قيمة وأثر اليماني في مجتمعه.

* العلاقة بين المثقفين في المجتمع المكي وعلى مستوى الوطن.

* علاقة المثقف بالسلطة.

جميع ما ذكر تناوله الكاتب في سياق شخصية اليماني وصفاته التي اتسم بها من حب الخير وعلاقته بأفراد المجتمع والمشاريع التي ساهم فيها والمناصب التي تولاها، علاقته بالمؤسسة الدينية، مشاركاته العلمية والمعرفية، دبلوماسية حياته وشخصيته.

وهذا في اعتقادي مسار جديد في كتابة السير والتراجم يصف الكاتب من خلال شخصية المترجم له الحالة الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية التي كان عليها المجتمع. فكتب يقول عن اليماني: (اليماني رجلاً عاش عظيماً، ومات عظيماً) وقد يحمل اليماني غضباً ولكنه صامت تحكمه أدوات الحكمة التي يملكها، وخاصة إذا صدر من أي نوع من الحراك الثقافي أو الصحافي الذي يذكي ثقافة الحسد والتنابز بالألفاظ، وطول اللسان وعدم احترام الصغير للكبير. فاليماني يحب الشخصية المتسمة بالعنف. ويحرص دائماً ألاّ يفعل فعلاً يعتذر عنه فيما بعد. فهو الكبير بأفعاله والقدوة في الميدان برزانته. لقد وجدتُ اليماني يتحاشى الحمق. ويحسن التعامل معهم بالرفق. ومن طبائعه الفاضلة والراقية أنه يشير إلى الهفوات باستحياء وأخلاق الكبار.

*)).. و..((*خطاب التشهير*))..،.

اليماني مفكر متميز بكل معنى الكلمة، حيث شكل حضوراً قوياً، وتأثيراً كبيراً في المجتمع السعودي وخاصة جيل الشباب، ويملك قدرة جيدة على التواصل مع الجميع لأنه رجلٌ اجتماعيٌ ذو نسيج مميز بل فريد، فلذلك ظل متوجاً بالإعجاب.

محمد عبده يماني عاش حتى بعد أن مات !.

نعم مات اليماني ليعيش !.

توفرت عندي عوامل عدة دفعتني للمضي في إنجاز هذا الكتاب. أهمها قيمة وأهمية ومكانة الدكتور محمد عبده يماني، الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية. والكتابة عندي دائماً هي فعل اكتشاف ولهذا أعترف للمتلقي أن أموراً عدة تغيرت في ذهني طوال عملية الكتابة.

وبعد وفاة معالي الدكتور محمد عبده يماني -غفر الله له- بدأت الكتابة شائكة أكثر مما ظننت بادئ الأمر. بسبب جملة من المستجدات انهالت على ذهني، جعلتني أراجع بعض ما كنت سطرته من قبل وبخاصة الجانب السياسي. لأن فيه خلاصة. تقص مرير وراء ضباب السياسة وأروقتها. ولأن الكتابة في الجانب السياسي هي ليست نزقاً عابراً ولا شططاً مغامراً. لأنها تحتاج إلى تأكيد الحقيقة ومقتضيات التوقيت عن الحدث أو الموقف السياسي. فكتب المؤلف: ((اقتنع هذا الرجل أن (العمل الخيري والتطوعي) سيعطيه مسافة للركض الهادئ نحو الآخرة والجنة، لذلك فهو لم يفقد لياقته من تعب ذلك العمل الخيري الذي لا ينتهي، ولم يستنفذ العمل الخيري إمكاناته وقدراته المختلفة.

نعم، إنه العمل الخيري والمجتمعي، الذي سك له اسمه، ومنحه وسمه، واكتشف بنيته الإنسانية وتكوينه الإسلامي، فعمل محمد عبده يماني على إنهاضه وتنويره من خلال التعامل مع الجميع بروح الفريق الواحد. فوضع للعمل الخير قواعد وأخلاقاً ومبادئ، فلم يكن أحد قبل اليماني مُنظم للكثير من أفعال الخير والبر والإحسان. فعندما يتحدث اليماني عن خدمة أهل مكة المكرمة وغيرها فإنه يتحدث عن جملة من المفاهيم الإسلامية والإجراءات التى تعطي للإنسان الأجر والثواب من عند الله جلت قدرته.

يؤمن اليماني بأن ممارسة العمل الخيري يحتاج دائماً إلى الأحكام العقلية لأنها صادقة وأن اختلف المكان والزمان للحاجة والمحتاج. لأن الحاجة قد تكون صفة الإنسان المحروم من حيث هو إنسان. وأحكام الحاجة ضرورية فلا بد من احترامها وتحقيقها للمحتاج.

5- الفصل الأول: فعل الخير:

تناول الكاتب في هذا الفصل شخصية اليماني في فعل الخير وفعل الخير كما هو معروف جزء منه شخصي وهو ما يرتبط بسلوك الفرد بصورة شخصية ومنه ما يرتبط بمصلحة الأمة وقد تناول الكاتب هذه الصفة لدى اليماني من الجانبين فوضح مباشرته الشخصية لفعل الخير وحب الناس له وعلاقته بالضعفاء وقد ربط الكاتب شخصية اليماني وسلوكه ببيئته التي نشأ فيها وتربيته ومجتمعه، فكان سلوكه ناتجاً عن تربيته، وهذا نموذج لما كان سائداً من تربية إسلامية تسيطر على المجتمع المكي فنشأ على ما تربى عليه من حب الناس والخير والستر والعمل الصالح، أما ما يرتبط بمصلحة الأمة فقد ظهر هذا بعد أن كبر وتعلم وتولى المناصب القيادية وتفتح آفاقه وذهنه على ما يجب أن يقوم به لخدمة الإسلام والأمة الإسلامية فكان من أولوياته مشروع تحفيظ القرآن الكريم، ومشروع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قدم الكثير لهذين المشروعين.

وهذا الجزء من الكتاب يوضح لدارسي التاريخ الحراك الثقافي الإسلامي في هذه المرحلة وما كان عليه وآلياته وما وجهه من صعوبات، كما أنه يعطي وصفاً دقيقاً من خلال شخصية اليماني لنماذج المهتمين بهذه المواضيع في هذه المرحلة من التاريخ.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة