Culture Magazine Thursday  17/03/2011 G Issue 335
أوراق
الخميس 12 ,ربيع الآخر 1432   العدد  335
 
افتراض واقعي
التقنية ليست إلكتروناً
تركي محمد التركي

التقانة أو التقنية تعريب لكلمة تكنولوجي Technology التي تعني في شقها الأول Techno الفن والصناعة، وفي شقها الثاني logy علم. أردت طرح هذا المصطلح تحديداً لأنه غالباً ما يتم حصر معناه أو مفهومه حتى من قِبل الكثير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في بعض نتائجه أو أدواته الحديثة كالحواسيب والأجهزة الإلكترونية، في حين أن المعنى أبعد من ذلك وأعمق؛ فهو في مفهومه الشامل طريقة للتعامل مع الحياة بشكل مغاير لطبيعة هذه الحياة؛ ما يؤدي إلى خلق لحظات متكررة من الوعي المتجاوز لحدوده الفكرية والاجتماعية، يتم من خلالها صناعة معرفية قد تتمثل في أدوات غير عضوية تختلف جذرياً عن طبيعة الحياة في بعض الأحيان، ولكنها أيضاً قد تُحاكي هذه الطبيعة في أحيان أخرى كثيرة.

وعلى سبيل المثال فإن استخدام إنسان ما قبل التاريخ للرمح الذي كان يُعتبر اختراعاً غير مسبوق في حينه وأداة من أدوات ذلك الزمان «التكنولوجية» والحديثة تم من خلال ملاحظة وسؤال عن الكيفية؛ ما دفع ذلك الإنسان إلى استخدام مواد عضوية متوافرة لديه طبيعياً لصنع مادة غير عضوية كمحاكاة للمخالب العضوية التي لاحظها لدى الحيوانات. هذا مثال لتداخل الجانب الصناعي والفني مع الحاجة الطبيعية في الوقت ذاته. أما من حيث الجانب الفني والحاجة الذوقية البحتة فإن تصنيع «الناي» غير العضوي (أقدم آلة موسيقية) من مواد عضوية كالجلود وقصب السكر هو أيضاً لحظة وعي وحاجة ذوقية متسامية ومُتجاوزة تدلل أيضاً على أن الإنسان الأول كان يتميز منذ القدم بهذا الجانب الفني والذوقي مقارنة بغيره من الكائنات الحية.

حين نعلم بأن الوجه الآخر للرغبة في مفهومها النفسي هو أيضاً شعور إنساني مستمر بالنقص والحاجة فإننا نستطيع أن نفهم بأن هذا الشعور النفسي الراغب هو الذي يُولّد هذه اللحظات العقلانية التي تتضافر فيها الملاحظة والوعي للاستفادة من معرفة سابقة ولتقديم معرفة لاحقة يتم تطبيقها على أرض الواقع لخلق اختراعات واكتشافات كهذه مادية أو لا مادية (فنية وفكرية ومعرفية) لا تقل في أهميتها الاجتماعية عن هذه الاختراعات المادية، بل دافعة ومُحفزة لها باستمرار.

أهمية إعادة صياغة هذا المفهوم واستيعابه منذ بداياته تقودنا إلى فَهْم أكبر وأعمق لهذه المجتمعات التقنية الصناعية المنتجة بعيداً عن أدواتها التي لا تمثل إلا الظاهر من حياتها من حيث كونها ظواهر متغيرة تتبدل وتتفاوت بتفاوت أزمانها؛ وبالتالي فهي مجتمعات ليست تقنية بسبب منتجاتها بقدر ما هي كذلك بسبب طريقة تعاطيها فنياً وفكرياً وصناعياً مع هذه الحياة إجمالاً؛ وبالتالي لا نستغرب أن تكون إحدى نتائجها لا أكثر هي هذه الأدوات المتطورة بتطور أزمانها، كما أن أهمية هذا المفهوم وتعاطيه باستمرار فكرياً وثقافياً تغدو ملحة حين نطمئن كثيراً لكيفية تعاطينا مع هذه الحياة، وحين نُصر بأن العقول وطرق التفكير وأسلوب الحياة إجمالاً لا تنقصنا بقدر ما ينقصنا الاهتمام والموارد والإخلاص، بل وتغدو مُلحّة أكثر وأكثر حين نقف عند سؤال فلسفي من نوع «لماذا» تقدموا ولم نتقدم؟ في حين أن السؤال الآتي يجب أن يكون حول كيف تقدموا؟!

سؤال الكيفية سؤال تقني/ فني بامتياز، لا يزال يُميز هذه المجتمعات التقنية لهذه اللحظة بقدر ما يميز مجتمعاتنا توقفها عند سؤال «لماذا» ومن أين وإلى أين؟!.. سؤال لماذا سؤال فلسفي مثالي وعميق، ضروري ومحفز باستمرار؛ فهو سؤال نسبي أيضاً حيث إنه مفتوح على الأسباب والاحتمالات كافة، ولكن أيضاً يجب أن نعلم أن ضرورة هذا المنطق البشري القاصر باستمرار فكرياً ونفسياً تحتم أن ينتهي هذا السؤال بسؤال «لماذا» آخر، وهذا هو ذاته الذي دعا تلك المجتمعات القديمة والحديثة إلى أن تعي ذلك في لحظة وعي ومعرفة مميزة قد نعتبرها اللحظة الحضارية الأولى لهذه المجتمعات التي فيها تصالحت مع شعورها النفسي بالنقص؛ وبالتالي مع سؤال من نوع «لماذا» الذي لا يُقدّم إلا سؤالاً آخر، كما أنها أيضاً لم تقف عند هذا التصالح مع الذات بجميع نواقصها بل تجاوزته لتعتني فيما بين السؤال والآخر بإجابة أو كيفية دنيوية واقعية وإبداعية لا تقف عند حدود العادة الاجتماعية أو التقليد الفكري، بل لا يمنع تقدمها وتطورها الحفاظ على الهوية أو الخوف من التشريق و التغريب، إجابة يقدمها بكل براعة ومهارة سؤال كيف، في حين نجد مجتمعاتنا انتظرت ولا تزال تنتظر في ظل الكثير من مخاوفها إجابة لهذه السؤال المثالي والمتعالي «لماذا»؟!

ومع إلحاح هذا السؤال وشعبيته الجماهيرية، ومع التفنن في طرحه وتداوله شعبياً ونخبوياً باستخدام أو بالأصح باستهلاك جميع أدوات الآخر التكنولوجية، الواقعية منها أو الافتراضية الواقعية؛ فإن طلب الإجابة أيضاً يرتفع ويصبح مُلحاً بوصفه مطلباً نفسياً ومثالياً يتوهم إمكانية إكمال هذا القصور الطبيعي تماماً، في حين أنه من الواجب أن يبقى مطلباً علمياً معرفياً متواضعاً كما هي «العادة» الوحيدة التي يعرفها العلم الموضوعي الذي يُتمم ويُرمم فقط هذا القصور ويتجاوزه لخلق معارف حديثة ومتجددة تساهم في خلق بيئات ونفسيات ومجتمعات حديثة، ولكن هذا الطلب فيما يبدو هو ذاته ما أدى إلى خلق عَرض كبير وغير مسبوق من المُدعين أصحاب الإجابات الانتقائية والقطعية دينياً وعلمياً وشعبياً، إجابات أو كيفيات يكفل استمرارها انتعاش ووفرة اقتصادية مادية نعيشها تضافرت مع رغبة نفسية طبيعية بدائية في الانغلاق وتوهم الخصوصية والكمال، يدفعها باستمرار الخوف والتوجس من كل ما لم نعتده أو نألفه اجتماعياً، هذه الكيفيات التي قد تكون ملائمة لزمن من الأزمنة بالتأكيد لن تكون ذات جدوى في زمن آخر متى ما أُخذت التكلفة والجدوى الاقتصادية والاجتماعية في الحسبان، أو متى ما فارقتها هذه الوفرة التي تشد بها أزرها ووجودها؛ لذلك وجب السؤال مرة بعد أخرى وزماناً بعد آخر عن كيف؛ فالمسافة بين الرمح والصاروخ وإن كانت طويلة جداً بعمر الزمن إلا أنها بعمر المعرفة قصيرة جداً، ويمكن اختزالها بكيف؟!

Alturki.tt@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة