سعدت بدعوة كريمة لزيارة حضرموت من منتدى ثلوثية بامحسون في أواخر شهر ربيع الآخر المنصرم رفق ثلة خيرة من المثقفين والمثقفات والأكاديميين والأكاديميات السعوديين بمناسبة إعلان مدينة تريم عاصمة للثقافة الإسلامية هذا العام، وسجلت انطباعي عن هذه الزيارة لهذا الجزء العزيز من وطننا العربي الكبير في الملحق الثقافي بجريدة الجزيرة يوم الخميس 8-5-1431هـ.
ومدينة تريم - كما ذكر الزميل الكريم الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في محاضرته القيمة بكلية التربية بجامعة حضرموت في سيئون -: (مدينة الجوامع والمدارس العلمية، ومجالس العلماء والفضلاء، وصوامع المخطوطات ودور الفقه والإفتاء) من أربطتها تخرج كثير من علمائها وفضلائها، وهاجر بعضهم إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا.. وكان لهم الفضل بعد الله في نشر الإسلام في تلك الربوع، ويحدثنا علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في مقال نشره في جريدة الرياض العدد 11401 سنة 1420هـ، (بأن كثيراً من مثقفي بلادنا يجهلون، أبناء حضرموت من آثار في مختلف العلوم قديماً وحديثاً)، ولما كانت هذه المناسبة (مناسبة إعلان مدينة تريم عاصمة للثقافة الإسلامية هذا العام)، تدعوني أن أبذل جهد المثقف في محاولة الحديث عن بعض رجالات حضرموت، تعريفاً بسيرهم الذاتية التي تزخر بها الكتب في مظانها، ثم لما تميز به الحضارم قديماً وحاضراً من اجتماع الألفة وكريم التآلف، ونبيل العطف وجميل المحبة، والحنو على أبناء جلدتهم، وحرصهم على توجيههم للعمل الشريف، وهي سجايا محمودة فيهم ولهم وموضع فخر وفخار؛ فالحضارمة لم يألفوا الدعة التي تؤدي إلى مزالق السوء، بل عهدناهم في العمل مثابرين، وفي الإنجاز مجدين، اتخذوا من الامانة نهجاً، والإخلاص مسلكاً، والصدق سجية، اتجهوا للكسب الحلال فسعوا فيه ما وسعهم السعي، وحرصوا ألا يكون كسبهم لياطا (1) فأعارهم الله غنىً وخلطهم بنا، فأصبحنا وإياهم في مجتمع واحد تواصلت فيه الأرحام، وتآلفت فيه القلوب، تحقيقاً لحكمة المولى عز وجل (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ومن الواجب أن أستفتح بسيرة قاض عَلَم من خيرة قضاة المسلمين عقلاً وحكمة وتدبراً وتقىً وعدلا، وصفه صاحب شذرات الذهب بأنه كان فقيهاً نبيهاً شاعرا)، كندي النسب عراقي النشأة، الفقيه القاضي العربي الشهير: شريح بن الحارث بن قيس الذي ينتهي نسبه إلى الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي أحد السادات الطُّلس (2)، أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقل من اليمن زمن الصديق -رضي الله عنه-، قال عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان: (كان أعلم الناس بالقضاء ذا فطنة وذكاء وعقل ورصانة)، وقال عنه ابن عبدالبر: (كان شاعراً محسناً)، تزوج امرأة من تميم تسمى زينب، وكان له جار يضرب امرأته فقال:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم
فشلت يميني حين أضرب زينبا
ولاَّه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضاء الكوفة، وقال له: (ما وجدته في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم تستبن في كتاب الله فالزم السنة، فإن لم يكن في السنة فاجتهد).
وللقاضي شريح أخبار عن عدالته ودقيق نظره وحسن استنباطه، منها ما رواه الشعبي قال: (كنت جالساً عند شريح إذ دخلت امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاءً شديداً، فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة، قال: وما علمك؟ قلت لبكائها، قال: لا تفعل فإن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون وهم ظالمون). وهذا حسن تدبر من شريح، وعدل قضاء وبعد نظر، ودفع لقالة معير شانئ لم يسلم منها الشعبي الذي عير وقيل في ذلك شعر، فما يروى أن رجلاً دخل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته وهي من أجمل النساء فاختصما فأدلت المرأة بحجتها وأبانت عن بينتها فقال الشعبي لزوجها: هل عندك لما قالت مدفع؟ ولما لم يكن له مدفع حكم لها، فقيل في ذلك:
فتن الشعبي لمَّا
رفع الطرفَ إليها
فَتَنتْهُ بدلالٍ
وبخطّي حاجبيها
قال للجلواز قرِّبها وأحضر شاهديها
فقضى جوراً على الخصم ولم يقض عليها (3)
قال الشعبي فدخلتُ على عبدالملك بن مروان، فلما نظر إليَّ تبسَّم وقال: فُتِنَ الشَّعبي.. إلخ، ثم قال ما فعلتَ بقائل هذه الأبيات؟ قلتُ أوجعتُهُ ضرباً بما انتهك من حرمة مجلس الحكومة، إلا أن هذه الأبيات انتشرت لسهولتها وغنائية بحرها..
كان شريح -رحمه الله- إذا سئل من أنت؟ يقول: ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعدادي في كندة، استقضاه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لما تبين له رضي الله عنه عدالة حكمه)..
روي أن عمر بن الخطاب أخذ من رجلٍ فرساً على سوم، فحمل عليه رحلاً فعطب الفرس.. فقال عمر للرجل: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل بيني وبينك شريح العراقي، فلما سمع شريح منهما قال لعمر: أخذته سليماً صحيحاً على سوم، فعليك أن ترده كما أخذته، فأعجب عمر رضي الله عنه بقضائه وحكمه وبعثه في العراق قاضيا، وفي موقف شبيه لم يحكم شريح لأمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما اختصم مع يهودي في درع كانت في حوزة اليهودي، قال اليهودي درعي وفي يدي وبيني وبينك قاضي المسلمين، فانطلقا إلى شريح، فقال لليهودي: ما تقول؟ فقال درعي وفي يدي، طلب شريح من علي رضي الله عنه شهوده، فشهد له مولاه قنبر والحسن بن علي رضي الله عنهما، فأمضى شريح شهادة قنبر ولم يجز شهادة الحسن لقرابته، وقضى بالدرع لليهودي، فقال اليهودي أمير المؤمنين مشي معي إلى قاضيه، وجلس معي مجلس الخصومة، وقضى عليه القاضي ورضي بما حكم به: صدقتَ يا أمير المؤمنين، الدرع درعك، وردَّها إليه وأسلم.
كثير منا يظن أن القاعدة القانونية المشهورة (الحيازة في المنقول سند الملكية) حديثة ونحسبها من فضائل القوانين المستحدثة، ولكن هذه القصة تثبت أن القضاء الإسلامي طبقها قبل ألفٍ وأربعمائة عام.
يروى أن الأشعث بن قيس دخل على شريح في مجلس الحكومة، فقال شريح مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا وأجلسه بجواره، فبينما هو جالس عنده دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال شريح للأشعث: قم فاجلس معه مجلس الخصم وكلم صاحبك، فقال: بل أكلمه من مجلسي، فأجابه آمراً: لتقومن أو لآمرن من يقيمك.
فقال الأشعث: لشد ما ارتفعت، قال شريح: هل رأيت ذلك يغيرك؟ قال: لا، قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك.
هذا الموقف ينزه القضاء من بادرة ميل أو محاباة، فالأشعث كندي وشريح كندي، والأشعث سليل ملوك كندة، والده قيس بن معدي كرب صاحب مرباع حضرموت، خلف والده في السلطنة، فكان خير ملك عرفته حضرموت، وسيأتي الحديث عنه -إن شاء الله- مستقبلاً في مقالة قادمة، وكان قيس والد الأشعث ملكاً ممدحاً، رحل إليه أعشى قيس مادحاً، وقال فيه:
بقية خمسٍ من الراسما
ت بيضٍ تشبههن الصّوارا
دفعن إلى اثنين عند الخصو
ص وقد حبسا بينهن الإصارا
فهذا يعدّ لهن الخلا
وينقل ذا بينهنّ الحضارا
فكان بقيّتهنّ التي
تروق العيون وتقضي السّفارا
فأبقى رواحي وسير الغدوّ م
نها ذؤاب جداءٍ صغارا
أقول لها حين جد الرحي
لـ أبرحت جداً وأبرحت جارا
إلى المرء قيسٍ تطيل السُّرى
وأطوي من الأرض تيهاً قفارا
فلا تشتكنَّ إليَّ السّفار
وطول العنا واجعليه اصطبارا
رواح العشيّ وسير الغدوِّ
يد الدهر حتى تلاقي الخيارا
تلاقي قيساً وأشياعَهُ
يسعّر للحرب ناراً فنارا
وللحديث بقية إن شاء الله.
***
الهامش:
(1) لياطا: معناها في السياق الربا، وهي كلمة واوية يائية (لسان العرب مادة لوط)
(2) أحد السادات الطّلس: وهم أربعة: عبدالله بن الزبير وقيس بن سعد بن عبادة والأحنف بن قيس والقاضي شريح، والأطلس الذي لاشعر في وجهه (وفيات الأعيان دار الثقافة ص 461
(3) هذه الأبيات منسوبة عند الثعالبي في التمثيل والمحاضرة للشاعر المتوكل الليثي وزاد عليها:
كيف لو أبصر منها
نحرها أو ساعديها
لصبا حتى تراه
ساجداً بين يديها
والشعبي هو الإمام الفقيه عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، وذوكبار قَيْلٌ من أقيال اليمن، أدرك الشعبي أكابر الصحابة وأعلامهم، وكان إماماً حافظاً فقيها.