حين كنا صغارا، كنا نستمع إلى خطبة الجمعة من الشيخ العلامة «محمد الصالح العثيمين 1347-1421هـ عليه رحمة الله» بإيقاع أدائي ذي تنغيم اعتدناه فتصورناه جزءا لا ينفصل عن شكل الخطابة الدينية، ثم فاجأتنا جمعة مختلفة كان الشيخ فيها يقرأ بشكل انسيابي، وعرفنا أنه -غفر الله له- قد استجاب لرأي بعض الشباب من طلابه الذين وعوا خطبا أخرى يترسل فيها إلقاء الخطباء فاستجاب لهم، وكذا كان كبيرا وكانوا كبارا.
ظل لخطبة الجمعة ملامح خاصة بها حتى كادت تتحول إلى محفوظات لا يتغير فيها سوى بضعة سطور تحكي حكما فقهيا أو قضية مجتمعية؛ فلم نكن نصيخ سمعا مركزا، وزعم صاحبكم -غير آثم- أن لو تضمنت الخطبة دعاء غير ذي صلة أو استشهادا دون موقعه لما فطنا ؛ فالكثرة بين ساه وشارد، ومُؤمنٍ وحامد، والخطبة التزام ديني لا عبث فيه؛ «فمن مس الحصى فقد لغى»، غير أن الحضور الذهني أمر آخر.
قبل عشرين عاما أو تزيد، كان المصلون يتناقلون طلاوة صوته ودقة تجويده؛ حيث كان إماما في أحد مساجد الرياض، ثم بدأنا نستمع إليه في المسجد الحرام خطيبا وإماما؛ فلفت نظرنا أنه يخطب كما يتحدث محاضر في منتدى، وأن المحفوظات تحولت إلى جديد وتجديد في الشكل والمضمون، مع رقي في اللغة، وإيماء للشعر، وتوظيف للمفردة، وعزم في القصد، ولين في الدعاء، وتواصل مع قضايا المجتمع، واهتمام بتفاصيل البناء النفسي للإنسان بقوته وضعفه، وجماله وقبحه، وامتداده وانحساره.
وفي جمعة قريبة خطب عن الهم؛ فصاغ لوحة بيانية راقية، وطرق موضوعا إنسانيا شاملا، وأضفى استشهادات موحية، وحين رأى العلاج بذكر الله والصلاة على رسول الله بكى وأبكى، وشعرنا بصدقه وتقصيه، ومرجعيته وعمقه، وكنا (صديقان) ننصت بتأمل؛ فاستوقفنا معا حديثه عمن يتوهمون الهم «حذار أن تكون همومكم من نسج خيالكم»، ومن يظنون الكبار بمنجى منه، ومن يستسلمون له، وأيقنا أنه عالم نفس مثلما هو أستاذ شريعة.
يحظى بثناء الناس؛ و»ألسنة الخلق شهود الحق»، وبقي معتدلا في خطبته بين الطول والقصر، ولم يعهد مبالغا وإن عرف بليغا، وتناقل الناس تواضعه ولين جانبه، وقابله صاحبكم مرة عابرة فابتدره ووالده بالسلام، وتحدثوا بشأن سريع؛ أبقى انطباعا جميلا حوله.
الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم (1386 هـ- شقراء ) - دكتوراه في الفقه المقارن من جامعة أم القرى، ورسالته تحقيق لمخطوط «المسالك في المناسك للكرماني»، ويوشك يكمل عشرين عاما في إمامة وخطابة المسجد الحرام (منذ عام 1412 هـ)، وقد تتلمذ على كبار مشايخ المملكة، ونال الماجستير من المعهد العالي للقضاء، ومن مؤلفاته -وفق الويكيبيديا-:
«كيفية ثبوت النسب «مخطوط»، كرامات الأنبياء «مخطوط»، المهدي المنتظر عند أهل السنة والجماعة «مخطوط»، المنهاج للمعتمر والحاج، وميض من الحرم «مجموعة خطب»، خالص الجمان تهذيب مناسك الحج من أضواء البيان، أصول الفقه سؤال وجواب «مخطوط»، التحفة المكية شرح حائية ابن أبي داود العقدية «مجلد مخطوط»، حاشية على لامية ابن القيم «مخطوط» فقه الخطيب والخطبة، وبل السحابة على نظم الصبابة في مدح المدينة طابة، المرجعات حول إنكار مصطفى محمود أحاديث الشفاعات، إسراج الخيول في نظم القواعد الأربع والثلاثة الأصول، النظم الحبير في فن وأصول التفسير.
اهتم بحفظ القرآن الكريم من صغره، وروي أنه حفظ سورة النساء عند إشارات المرور في أثناء توقفه وقت قيادة السيارة، ويبقى أنه صاحب أسلوب مميز، ولو لم تأخذه الدراسة الدينية لربما وجدناه كاتبا ذا بنان وبيان، حفظه الله وجعله نموذجا للعالم العابد الوسطي النزيه.
الاعتدال منهج الدعاة
ibrturkia@gmail.com