بقلم: بروفسور جوزيب نوفاكوفيتش
إهداء خاص من المترجم: إلى روح والدي الشيخ عبد العزيز الحمد العيسى
وإهداء عام: لكل من فقد والده
وأصبح شقيقنا الأكبر طبيبا وقد كان يبلغ السابعة والعشرين عند وفاة والدنا، ليكون بهذا «عمليا» بدرجة أكثر من شقيقيه الآخرين.
بطبيعة الحال، نظريتي هذه «ذاتية» بل ربما «وهمية» و»غامضة»، ولن أتفاجأ لو أثبتت دراسة سوسيولوجية أن منطقي خطأ. وعلى أية حال، قبل وفاة والدي، لم يكن لدي طابع عملي في حياتي. لم أكن مطلقا واحدا من هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون تماما في سن السابعة ما يريدون أن يفعلوا في بقية حيواتهم ويهموا بفعل ذلك بدقة، مثل (المخترع النمساوي- الأمريكي المهندس نيكولا) تسلا، الذي كان لديه تصور واضح في بداية شبابه بأنه سيصنع توربين ضخم في شلالات نياغارا، وفعل ذلك تماما بعد ثلاثين عاما (ليصبح رائد توليد الطاقة الكهربائية لأغراض تجارية في العالم).
عندما أقوم بزيارة أصدقاء لديهم آباء، أشعر عادة بدهشة. وأحيانا أتساءل: لماذا يعشقون الحديث مع رجل عجوز كبير في السن. وتقريبا لم يلفت نظري أي أب لأحد أصدقائي لكونه مصدر حكمة أو استقرار. ربما يعود هذا لكوني لا أصادق أشخاصا لديهم آباء مؤثرين، ولكن الأكثر احتمالا هو ندرة الآباء المؤثرين. من الصعب والعسير أن تكون أبا مؤثرا ومثاليا. أنا متيقن من هذا الأمر تماما لأني أب. في الواقع، ابني الآن بمثل عمري عندما فقدت والدي. ولذلك، في بعض الأحيان، أطلب منه مازحا أن «يكون لطيفا معي لأنه لا أحد يعرف متى يختفي الأب»، ولأنه من المؤكد والثابت علميا أن «الآباء لا يستمرون طويلا».
اسمه هو في الأساس نفس اسمي، مع ملاحظة أن اسمي هو «جوزيب»، وهو المرادف الكرواتي لجوزيف بالإنجليزية (أو يوسف بالعربية). اسم والدي كان جوزيب بالمثل. وأنا أعلم أنه في كثير من التقاليد والثقافات أنه من علامات سوء الحظ تسمية ابنك باسم والدك، ولكن لا أعتقد أنه كان لدي خيارات عديدة. فهناك تقاليد قليلة جدا في عائلتي، ووجدت من الأسهل كسر واحدة منها بدل تأسيس تقليد جديد. والد والدي كان اسمه جوزيب، واسم والده كان جوزيب (وقد قتل لسقوط شجرة عليه عندما كان عمر جدي ثلاث سنوات فقط!!!).
يبدو أن والدي لم يؤيد استمرار ذلك التقليد العائلي بتسمية الابن الأكبر جوزيب، ولذلك سمى شقيقي الأكبر فلاديمير. وسمى الثاني إيفان، وبعد ذلك عندما ولدت أنا، تساءل ماذا سيسميني بحق الجحيم. للأسف، أمي لم تكن مهتمة مطلقا بتسميتي لأنني - كما أكدت لي - سببت لها آلاما شديدة أثناء الولادة حتى كادت تموت تقريبا من الألم، كان ذلك قبل ابتكار العملية القيصرية. لذلك قال أخي فلاديمير لوالدي مذكرا: «لقد نسيتَ شيئا ما يا أبي» (أي تسمية الوليد). ثم تذكر والدي وقال: «أوووه، طبعا، طبعا».
وهكذا، شكرا لهذا التقليد العائلي المجنون، ولمعرفة ما سيكتب على لوحة قبري، أذهب إلى المقبرة لرؤية الصرح الرخامي فوق قبر والدي والمنقوش عليه أيضا «جوزيب نوفاكوفيتش» بحروف فضية واضحة.
عندما يكون لديك أب، يمكنك أن تتعلم كيف تصبح أبا. في البداية، كنت صديقا ممتازا مع ابني جوزيف، ولكن في الآونة الأخيرة أصبحت لدينا مشاكلنا الكبيرة!!! فهو - مثلا- لا يتحمل فوزي عليه في لعبة «البينغ بونغ» أو «الشطرنج». ولذلك، أقول له غاضبا: «هل تريد أن أخسر أمامك لكي تفرح؟! لقد لعبت هذه اللعبة لمدة ثلاثين سنة قبلك ولمدة ثلاثين يوما معك، ومع هذا تريد أن تهزمني»!!! عندما كان في السادسة، علمته كيف يلعب كرة القدم، وكان يبكي إذا سجلت أهدافا أكثر منه!! ولذلك، كنت أتهاون وأتظاهر بالضعف ليسجل أهدافا أكثر مني ليفرح ونواصل اللعب. ولكنني لم أستوعب تماما دوري وصورتي «كأب» لديه إلا عندما ذهبنا ذات يوم إلى تدريب فريق كرة القدم لصفه في مدرسته. وفعلت نفس الشيء مع الأولاد في المدرسة عندما لعبت مازحا دور حارس مرمى. وعندما تعمدت مرارا ترك الكرة تدخل مرماي وتلامس الشبكة كهدف، بكى ابني جوزيف، فقلت له: «قل لي بربك: ما خطأي الآن؟» ثم باح لي وهو يبكي بأنه يعتقد أنني «أفضل» لاعب كرة قدم في العالم أو كما وصفني بجدية وهو يبكي: «اللاعب الذي لا يقهر»، ودخول هدف من طفل في صفه هز بالفعل وحقا صورة «الأب- اللاعب» الذي لا يقهر. ولكن وبطبيعة الحال، تمكنه هو من التسجيل في مرماي يجعله أفضل لاعب، بينما تركي الأطفال الآخرين يسجلون يخفض قيمته ويهز سمعته شخصيا لأنه ابن «الأب- اللاعب» الذي لا يقهر.
ماهي ضرورة وجود الآباء؟! معظم المخلوقات الثدية لا تشمل آباء. في الجوهر، وعلى المستوى البيلوجي، الآباء ليسوا ضرورة، الأمهات هن بالفعل ضروريات. وربما كانت مسألة تطور Evolution التي أعطت البشر أفضلية ليكون هناك آباء ليساعدوا في تأمين المعيشة والحماية. ولكن حتى مع هذا، في المراحل المبكرة من الحضارة، الآباء عادة لا يقيمون كثيرا في البيت. لقد كانوا دائما في الخارج للصيد، وشن الحرب، والمشاركة في أنشطة خطرة تؤدي في كثير من الأحيان إلى وفاتهم. وفي حالة وفاتهم، يمكن لرجال آخرين القيام بوظائفهم الوقائية في القبيلة. وبموجب قوانين الزواج «العبرية» القديمة، إذا مات الرجل، يقوم شقيقه بدور زوج الأرملة. لذلك، فإن دور الأب يمكن الاستغناء عنه. وعلى أية حال، الأب الذي يبقى دائما في المنزل، ربما كان «يعرقل» على نحو ما تطور ونمو أطفاله. فمع وجوده دائما في المنزل، ربما لا يتم دفع الأطفال الذكور إلى العمل والاستقلالية تماما بوتيرة أسرع بدون وجوده. وعلى الرغم من شعور «عدم اليقين» (الغموض) الذي سببه لي فقدان والدي، اكتشفت أنني أصبحت بعد وفاته: «أكثر استقلالا»، و»أكثر حرية»، بل والعجيب أنني تمكنت من استثمار «غيابه» لمصلحتي. فعندما كنت على وشك أن أطرد من الكنيسة المعمدانية في حينا لعدة أسباب (طول الشعر، وتدخين السجائر، والسرقة، والتخلف عن الذهاب للكنيسة يوم الأحد، والتهاون في أداء صلاة الشكر قبل تناول الطعام)، جاءني القس، وقال إنه نظرا لفقداني والدي، فإن شيوخ الكنيسة قرروا العفو عني ومنحي فرصة أخرى لكي أتوب. وأعتقد أنه لو كان لدي أب، لكان تصرف كواحد منهم. وبالطبع، شكرت القس على هذا العرض السخي. (وعندما أتأمل ذلك العرض بأثر رجعي الآن، أجده يبدو مثل وعد «دبليو بوش» لبوتين بنشر وتعزيز الديمقراطية في روسيا!!).
في المدرسة، كنت أتغيب عن الحصص. ولبعض الوقت، كنت أمشي في طريق المدرسة، وأدور حولها، وأدخل الغابة حيث أقضي معظم اليوم في تسلق الشجر والقراءة. تغيبي عن الحصص كان يُعفى عنه دائما لأني عديم الأب. وأصبح البيت أكثر هدوءاً الآن. ويمكنني أن أكون كسولاً في حياتي. ولم يكن واجباً علي إتقان العزف على الالآت الموسيقية كما يطلب منا مدرس الموسيقى. ولكن أخي الذي رفض العزف عندما كان والدنا حيا، بدا الآن يتمرن بجنون ليتقن العزف كما لو كان يريد أن يستدعي ويبتهل بطريقته الخاصة ليعود إلينا والدنا. أتذكر العديد من المزايا لوجود الأب. فقد كان يغني في بعض الأحيان في المساء بل وشاهدته يعزف بنفسه سرا على الغيتار. وكان أيضا يعزف على الكمان والدف، والطبلة وغيرها من الآلات. ولكن الأهم: أنه كان يقص علينا حكايات - ليس مرات كثيرة -، ولكن على الأقل نصف دستة كما أذكر كانت كفيلة لترك بصمة علي. كان يرتجل الحكايات بكثرة. وبعد كل رحلة عمل من رحلاته تحولت حكاياته إلى مثل «وجبة شاي» Teatime خفيفة عندما يحكي أحداثها الشيقة، وبينما كنا دائما منسجمين مع الحكاية ونمضغ الخبز والعسل والزبدة، كان يشرح لنا كيف نجا، بمساعدة سماوية، من مخاطر عديدة في رحلاته. لقد نشأتُ وأصبحتُ مهتما بالروايات ربما لأن أبي كان حكواتياً مذهلا. لقد كان يحفظ مقاطع طويلة من الإنجيل عن ظهر قلب، وبعد وفاته - بدوري - واصلت قراءة الإنجيل وكذلك قراءة روايات (الفرنسي) ألكسندر دوما، (والألماني) كارل ماي، و(الملاحم الشعرية اليونانية: الإلياذة والأوديسة). ربما جعلني عالمَ الخيال والأسطورة أقرب لوالدي الغائب. ربما كانت كتاباتي لها علاقة ما مع غيابه وبقايا صوته وهو يحكي عن رحلاته، وأهمها رحلته للعالم الآخر، عندما لم يشفع له إيمانه بالله لينجو من مخاطر توقف قلبه.
وفاة والدي أعطتني حافزا للكتابة. وبعد قراءة رواية تولستوي العبقرية والمذهلة «موت إيفان إيليتش» التي تصف بدقة مذهلة مراحل ومفارقات وفاة قاض، اعتقدت أنني يمكن أيضا أن أصف وفاة والدي، وهكذا خربشت مئتي صفحة من الرسومات التي تحتوي على الفناء الخلفي لمنزلنا وشوارع مدينتنا أي مسقط رأسي، ولكن مع هذا لم أستطع الكتابة عن وفاته، وبدلا من ذلك بدأت في كتابة قصة كوميدية ساخرة عن الموت. وفي وقت لاحق، كتبت قصائد قليلة عنه وعن موته وأحلامي عنه بكونه لا يزال على قيد الحياة ويموت للمرة الثانية والثالثة. كتبت بضعة مقالات عن وفاته، وقصة من نوع السيرة الذاتية كانت أول ما نُشر لي جديا ومهنيا في مجلة «بلاوفشير» (الأمريكية الأدبية المرموقة).
واحتوت روايتي «يوم كذبة أبريل» على فقرة طويلة تصف حالة وفاة غريبة، والتي من المؤكد أنها انبثقت من وفاة والدي. بصراحة، أنا لست واثقا من أنني كنت سأصبح كاتبا لو لم يمت والدي قبل سنوات مراهقتي. ولذلك، الكتابة هي «إرثي التاريخي»، وحتى هذا المقال هو كذلك. أو على الأقل هكذا أتصور وأتخيل، ربما متمنياً إعطاء والدي دوراً في حياتي، لأن حتى غيابه كان له شكل من أشكال الوجود، رغم كونه وجود «شبحي»!!
مونتريال، كنداالمغرب