الأسبوع الماضي تابعنا ما تحقق للفن التشكيلي العربي في مزاد كريستيز العالمي الذي يقام كل عام في دبي وكان النصيب الأكبر في المبيعات لمجموعة من الأعمال الفنية من مقتنيات المهندس الدكتور محمد سعيد فارسي أمين مدينة جدة السابق اقتناها من فنانين مصريين يعدون من رواد الفنون التشكيلية في مصر وعلى مستوى الدول العربية واليوم أصبحوا أسماء عالمية، وبلغت أسعار أعلى معدل في مبيعات المزاد منذ انطلاقته وكانت أغلى لوحة في هذا المزاد من مقتنيات الدكتور الفارسي لوحة الشادوف بمبلغ 8.939.484 درهم للفنان محمود سعيد المولود عام 1897- والمتوفى عام 1964 التي رسمها عام 1934.
وإذا كنا قد سعدنا بهذا الإنجاز وهذا الإنصاف للفن التشكيلي العربي والذي نأمل أن تكون بادرة وبوابة نحو آفاق أبعد لإيصال الفنون العربية إلى العالم وهذا لن يتحقق دون جهود تبذل من الجهات المعنية بالفن التشكيلي بالعالم العربي ومنها المملكة العربية السعودية التي تحتضن مبدعين رواداً منهم الأحياء ومنهم من انتقل إلى رحمة الله ممن يستحقون أن يكرموا ولو بعد رحيلهم بالتعريف بتجاربهم إلى الآخرين وإبرازها في مثل هذه المحافل وهي مهمة مشتركة بين أطراف عدة منها الجهات الرسمية ومنها أصحاب الذائقة المعاصرة والراقية من المقتنين ورجال الأعمال وأخيرا أسر وأبناء أولئك الفنانين وقد نذكر منهم الراحل عبد الحليم رضوي والفنان محمد السليم وغيرهم سنأتي على الحديث عنهم في موضوع قادم بإذن الله.
أما اليوم فيسعدنا أن نحتفي ونتحدث عن المهندس الدكتور محمد سعيد فارسي الذي لفت الأنظار العالمية بمقتنياته وساهم بتقديمها في هذا المزاد ليشاركه الآخرون في أهميتها واقتنائها والتعريف بهؤلاء الفنانين مع ما يحتفظ به من مقتنيات إضافة إلى ما قدمه للفن التشكيلي محلياً وعربياً، تاركاً له بصمات كبيرة تخفى على القلة القليلة ولكنها لم تغب عن الكثير فهذا الرجل أبقى أثره وتأثيره ودعمه على أرض جدة وفي قلوب أهلها وزوارها نستعرض بعضا منها في الموضوع التالي.
الفارسي ودعم التشكيليين
عرفت المهندس الدكتور محمد سعيد فارسي قبل أن ألتقيه وكنت من أشد المعجبين بما يقدمه للفن التشكيلي وكنت أغبط فناني مدينة جدة (محافظة جدة حاليا) على أن هذا الرجل أمينا لها من خلال ما يقوم به لهذا الفن أو ما يتردد على لسان الفنان الراحل عبد الحليم رضوي وألسنة التشكيليين حتى الآن ثم التقيت به في مناسبة تشكيلية في مدينة جدة وسعدت بحديثه للجميع، كان قريبا من الفن التشكيلي وفنانيه حريصا على دعمهم فهيأ لهم السبل ومنحهم القيمة والمقام والمكان أيضا ففي عام 1994 كان لفناني جدة إنجاز كبير ومهم لم يتحقق للفنانين في أي مدينة بالمملكة. وهو تبنيه فكرة إقامة مقر للتشكيليين يجمع شتاتهم بيت للتشكيليين تقدم بها نخبة من الفنانين وهم الراحل عبدا لحليم رضوي، طه صبان، نايل ملا، عبدالله حماس.
ورشح لإدارته الفنان طه صبان هذا البيت الذي كان بيتا للفنانين على مستوى المملكة في بداية انطلاقته فحظي الكثير منهم بعضويته (البيت الآن يمر بظروف صعبة) كان ملتقى للتشكيليين ومنطلقا لإقامة الكثير من الأنشطة منها المسابقات والدورات وإقامة المعارض الشخصية والجماعية.
إبداعات عالمية تزين كورنيش جدة
كان تحويل جدة إلى متحف تشكيلي حلما وهدفا من أهداف المهندس الدكتور محمد الفارسي فكان له ذلك بأن يشترط (كما قيل لنا) على الشركات المنفذة للمشاريع إهداء أعمال فنية لفنانين عالميين لتجميل مدينة جدة والتي رست على شاطئ عروس البحر الأحمر فازدان الكورنيش بأعمال فنانين عالميين لهم شهرتهم وريادتهم مثل (الإنجليزي هنري مور، والإسباني لافونتي، والفرنسي الهنقاري الأصل فيكتور فازاريلي، والألماني هولمان، ورودان،، وجون ميرو، وسيزار) ومن الفنانين السعوديين عبد الحليم رضوي وضياء عزيز ومن العرب الفنان صلاح طاهر. ناشرا بذلك الثقافة البصرية على الهواء الطلق ومعرفا بأشهر الفنانين ومقربا إبداعهم لأعين زوار الكورنيش من مختلف مناطق المملكة. هذا الاهتمام بالفنون التشكيلية لم يتوقف عند جلب الأعمال العالمية بقدر ما منح الفنان المحلي فرصته أيضا فانتشرت أعمال التشكيليين من جدة في كثير من المواقع البارزة والهامة في داخل المدينة وعلى شوارعها الرئيسية.
من المعني بدعم الفن التشكيلي
هذا الموقف الداعم مع ما يحمله المهندس الدكتور الفارسي من عين ثاقبة وقدرة على استشراف مستقبل العمل الفني واعتباره ثروة وطنية يجب أن تعطى حقها وأن تقدر وتبرز عالميا أبقت له ذكرى عطرة في مسيرة الفن التشكيلي السعودي تناقلها الأجيال. وإذا كنا نسعد بأن نحتفي بهذا الرجل تشكيليا مع ما حظي به من احتفاءات متعددة في مجالات أخرى فإننا نقف عند جانب مهم في مجالنا التشكيلي وهو كيفية العناية والاهتمام بهذا الفن وبمستوى يتوازى مع ما هو عليه عربيا وعالميا من حيث التنظيم والإعداد نتجاوز به مرحلة التشجيع والأخذ بأيدي الموهوبين إلى مرحلة تقييم الساحة وإنشاء قاعات عرض دائمة ومتحف يوثق الأعمال التي تستحق أن توثق في ظل هذا الزخم الكبير من المعارض والمشاركات والأسماء ضاع فيه الجيد في الرديء وأصبح الغث أكثر من الثمين.
هذه المهمة يتقاسمها ثلاثة أطراف هي وزارة الثقافة والقطاع الخاص والمقتنين المعروفين بدقة الاختيار ومعرفة قيمة العمل الفني، فوزارة الثقافة والإعلام بما حققته للفن التشكيلي من اهتمام تمثل في تأسيس جمعية للفن التشكيلي عليها أن تمنح هذه الجمعية صلاحيات كاملة وتدعم بالميزانية وتعتبر المسئولة عن هذا الفن ويستغنى عن أي لجنة أو قسم في أي جهة تتبع الوزارة وذلك لجمع شتات الفنانين وتحديد مرجعيتهم.
أما الجانب الثاني الذي لا يقل بأي حال عن السابق فهو القطاع الخاص الذي لا زال بعيدا عن هذا الفن ويسعى خلف دعم الإنتاج التلفزيوني في مجال الطرب أو التمثيل بالإعلانات متجاهلا الفن التشكيلي حيث يجد الفنانين صعوبة عند رغبتهم دعم القطاع لمعارضهم.
أما الطرف الثالث وهو المقتني فلا زال تعامله مع الساحة المحلية محدودا واهتمامه قليلا فلا يرى أي من هؤلاء في أي معرض يقام جماعيا كان أو فرديا وهؤلاء لهم أهميتهم وأهمية دعمه للعمل الفني لتواصلهم مع الآخرين من مقتنيي الأعمال الفنية عالميا وبذلك يمكن أن يصل هذا الفن إلى أعين الآخرين كما شاهدوه في مزاد كريستيز.
الإبداعات التشكيلية ثروة وطنية
لا يمكن الاختلاف على أن الإبداعات المختلفة التي تشكل ثقافة المجتمعات تعد ثرواتاً وطنية ورمزاً من رموز حضارة الأمم فمهما تنافست الدول في صناعتها أو عمارتها لآخر منظومة مظاهر الحضارة وفي كل حقب التاريخ إلى عصرنا الحاضر لا يمكن ان تغفل فيها أو أن تبرز أو تهمش الجانب الثقافي المتمثل في العطاءات الإنسانية فكراً وإبداعاً جمالياً لنا في تاريخ الأمم الكثير منها وفي كتب التاريخ أسماء لمبدعين في الفنون والثقافة تشكيلاً ومشرحاً وكتابة وشعراً ولهذا يمكن أن نختم بالقول أن للفنون التشكيلية دوراً هاماً مهما تغيرت أو تبدلت وتطورت سبل التعبير ويكفي ما حدث من تداول مختلف الصحف العالمية لخبر بيع الأعمال الفنية العربية بهذه الأسعار الكبيرة التي حرمت منها كثيراً.
monif@hotmail.com