وحيث إن الدكتور شاكر النابلسي في كتابه «نبت الصمت»، والأستاذ صالح الصالح في سلسلة مقالاته بعنوان «جدل الفكر المعاصر في المملكة»، إضافة إلى الدكتور محمد صالح الشنطي في دراسته المعنونة ب «أفقية السرد وكنائية التمثيل وبناء النموذج « قد تناولوا بعمق نقدي لافت معظم قصائد مرحلتي الهجرتين الأولى والثانية في تجربة محمد العلي، فإنني سأعمل على قراءة قصائد «الهجرة الثالثة»، مكتفياً هنا بالتوقف أمام قصيدة «آه ٍ.. متى أتغزل؟» والتي تنتمي لمرحلة الهجرة الثانية.
وسأقاربها وفق المحورين التاليين:
1- جدل العنوان والمفتتح
«الغبار على الماء «...
بهذه الجملة يفتتح النص مقوله الشعري أو خطابه، فتأخذ موقعها كدلالة وصفية لحالة سكونية مؤبدة في الزمان والمكان. ولكن عنوان النص «آهٍ متى أتغزّل؟» يبدأ صراعه معها، بما يمثله من دلالات الحركة والتشوف والأمل المرجأ في زمن مقبل يحلم فيه الظامئ بارتشاف قطرات الماء الصافية بعد إزاحة أو إزالة الغبار عنها، لكي يصل إلى ضفة الحلم والانتشاء بلذة الانتصار.
وبقدر ما يستمر التوتر قائماً بين قطبي: «العنوان» و «جملة المفتتح»، رؤية وتعبيراً، في كل أغصان القصيدة، إلا أنه سيتمحور في صراع داخلي بين مكونات الجملة الافتتاحية ذاتها، أي بين «الغبار والماء»، لا بصفتهما المادية، وإنما كحقلين دلاليين يبثان تناقضهما وتوتر علاقاتهما عبر النص، وخاصة في المقطعين الأولين منه.
ف «الغبار» سينزع إلى تكثيف فاعلية تجلياته السلبية بأشكال متعددة داخل بنية النص، مراوحاً في تنقّله بين الأزمنة، من حاضر الشاعر إلى تجربته الثقافية المحملة بإرث الماضي، وإلى ما سيبدو فيها كأحلام مستقبلية. وستتناسل أشباه «الغبار» في صور شعرية استعارية، مغايرة في بنيتها الفنية لجملة المفتتح الوصفية/ الكنائية، عبر انزياح الجملة عن معناها المباشر إلى دلالاتها التي تتشكل من البنية الكلية للنص، وذلك بتوظيف فاعلية المفارقة، والجمع بين الأضداد في مستواها الأول (الشهب وزبد الكأس، والصباح وارتداده، انهمار الغصون وليس الثمار، مغادرة المحار من البحر، وإقفال البحر لأمواجه، ومغادرته إلخ ..) من أجل تخليق حالة تأثير وجداني وجمالي عالي التوتر لدى القارئ، يهيئه للتفاعل مع المستوى الدلالي الثاني (معنى المعنى) بترقية المحسوس المادي في الصورة الشعرية إلى معادله التجريدي الواسع، (حيث لا يبقى الكأس كأساً ماديا تخترقه الشهب، وإنما يصير معادلاً للواقع، ولا يبقى الصبح زمناً فيزيائيا يعود أدراجه إلى العتمة، وإنما يصبح موازياً لمعنى الأمل الأجمل والذي لا يأتي، إلخ...):
«غادرة ٌ: هذه الشهب الزبدية في الكأس
هذا الصباح الذي لم يزل في ارتداد
وتلك الغصون التي انهمرت في الرياح»،
«هذا الخليج المبرّح غادر منه المحار»
«فيروز، قد أقفل البحر أمواجه ثم هاجر»!!
أما «الماء «الذي افتتن به الشاعر طويلاً، كحضور أو غياب، ليشكّل منه لوحاته الشعرية، فإنه سيحتفظ بجمالية المزاوجة بين معناه المادي المفعم بالحياة كدلالة أولى، وبين المستوى الدلالي الثاني الذي يوظفه الشاعر كعنصر تجادل وتصارع مع تجليات «الغبار»، ليصبح «الماء» هو «المعنى»/ الحلم الذي أفنى الشاعر عمره متشوفاً لملامسة مثالاته، وتحقيق وجوده الأجمل، في الواقع المعاش.
فالماء(المعنى) هو الأرض/الوطن : «والأرض تلك البغي الجميلة، تزداد وهجاً على البعد تزداد»
وهو الموقف: «لم ينضج الموت فينا، ولكننا سوف ننضجه بالحياة»
و هو المنادى الحلمي في قوله: «يا زرقةً طفلة ً تجهل النطق»
وهو العشق الذي لايعلّل: «ظل ٌ صقيلٌ هو العشق لكننا قد عشقنا»
وهو تلك الرقة والمهابة والسمو والحنان الذي يستعيره من صوت «فيروز»، لكي يصل الشاعر عبره إلى ذروة حالة امتلاك «المعنى» والانتشاء به ومعه.
ولعلنا حين نمعن النظر في نتاج «العلي» الشعري، سنجد أن تمثلات صراع «الغبار» وأشباهه مع «الماء»، الكنائية والاستعارية، تكاد أن تشكل «تيمة»أساسية في العديد من قصائده، بما يفتح باب التأويل واسعاً أمامنا لتأمل دلالات استخدام الشاعر «للماء»، لا كمادة أو مفردة وإنما كأفق جمالي ودلالي أوسع لما يتغياه الشاعر في توظيفه لتلك الكلمة.
ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى قصيدته «يا سوف»، التي ذيلها بهذا التاريخ:(«الدمام 1991، عند الغارات على بغداد»):
«وتجادل في الماء
هذي الرياح الغريبة تسفي عليك التتار
تعيد إليك القفار،
وأنت تجادل في الماء:
ها سوف ينبجس الصخر
سوف يعود الفرات الذي مات، سوف يغيم الغبار».
2-جمالية« الحالة »
وبناء« أنموذجها «
في هذا النص، كما في غيره من نصوص مرحلة الهجرة الثانية والثالثة، لا يذهب شاعرنا إلى فضاء القصيدة التأملية، التي تنتج أنموذجها الفني، كرمز، أو كقناع، أو كحالة تجريدية صرفة، وإنما يظل شاعر تجربة تمتزج فيها الذات بموضوعها، بحرارة وجدانية وجمالية عالية تعمل على زحزحة القصيدة من غنائيها المتمحورة حول الذات إلى أفق حالة درامية متعددة الأبعاد.
وهذه القصيدة تنبني على تكوين مشكّل من ثلاثة مقاطع، يمكن لكل منها أن يكون وحدةً أو نصاً شعرياً قصيراً مستقلاً بذاته، ولكن الشاعر يجدلها معاً في كون شعري مركّب، وحالة شعرية واحدة، تتراسل مع بعضها عبر بؤر الحقول الدلالية المتشابكة والمترابطة مع عنوانها، لإبراز درامية النص.
فمنذ بداية المقطع الأول تتم موضعة صوت الشاعر الرائي في قلب الواقع، لتعميق تجربة انفعاله به وجدله معه، فيقف في البدء شاهداً محايداً عبر الجملة الأولى «الغبار على الماء») وغالباً ما تشكّل هذه الجملة بؤرة دلالية مهيمنة على صياغة النص وأفق استقباله، في معظم قصائد الشاعر).
ثم ما يلبث ذلك الصوت المحايد أن يلبس حالة الشاعر المنفعل بالتجربة ليمضي في تشكيل صور الصراع بين «الغبار» و «الماء»، وتعميق الانفعال بدلالاتهما الواسعة، سواءً ما تحفل به راهنية الزمن الآني (في المقطع الأول)، أو ما تختزنه الذاكرة من حمولات ناء بحملها التاريخ (في المقطع الثاني)، حيث يقوم الشاعر باستدعاء «المتنبي»– لا كأنموذج فني أو كرمز أو قناع، وإنما من أجل تعميق حالة الانفعال بالتجربة الشعرية وانفتاح دلالاتها على الزمن، من خلال بعض المواقف التي تتقاطع مع تجربة المتنبي، بحثاً عن أمل أو معنى، أفنى كلاهما عمره في مطاردته ترحلا واغتراباً، ولم يتبق من كليهما إلا نصٌ خلّد الشاعر وتجربته :
«قف بي مليّاً أبا الطيْب
واقرأ عليّ الجراح التي قد تركت بها مصر،
كان الجواد هو الليل
غادر دون صهيل..
و أغمدت جرحك بالشعر
لكن ما عندنا كيف يُغمد؟
وإذا ما رأينا أن مآلات جدل قطبي الحركة والتضاد، «الغبار والماء»، في المقطعين الأولين لم تحسم معركة صراعهما، فإننا سنرى أيضاً أنها لم تحمل الشاعر على اليأس، بل حفزته على المضي للبحث عن أفق للتحرر من أسر الوجودي المطلق، صوب النسبي الممكن، عبر إبداع صورة مدهشة تتشكل من تشوف الشاعر إلى أن يكون «إناءً» مائياً لصوت «فيروز»:
«إناءً خذيني لصوتك
ثم اكسريه على البحر».
و تأخذ صورة كسر الإناء على البحر جمالياتها من إيحاءات عديدة تضافرت لتخليق حالتها الشعرية، منها:
تحويل صوت «فيروز» إلى معادل للماء في حسيته وفتنته، وفي إيحائيته ك «معنى» متعدد الدلالات.
حضور البعد الأسطوري الذي يحيل على سحرية «التعويذة» القادرة على فتح أبواب المغلق والمستحيل، والتي تتجلى في طقس إناء «الدوخلة» التي يكسرها أطفال الخليج على البحر لتعميق الأمل في عودة الآباء الباحثين عن باب الحياة في ظلمات البحر.
المقدرة الفنية على دمج الحسي بالأسطوري وبالواقعي، لصياغة حالة وجودية تتشوف إلى نهوض الحياة من رفات الموت أو الموات الطويل، صوب حلم الفرح المرتجى.
فيروز: قد أقفل البحر أمواجه
ثم هاجر
أفردني ثم هاجر
لكن صوتك أجنحةٌ للذين يفيضون من كل فج
من الرمل والماء والنخل
من كل مشتجرٍ للكآبات
من كل ما سوف أذكره حينما أتغزّل
آهٍ ..متى أتغزّل؟»
وليقفل النص – بعد ذلك - أبوابه، مثلما بدأ، بأمنية حارقة (حتى وإن انطوت على يقينٍ ما)..أمام واقع مستمر الجفاف والقسوة، لا يبقى لنا إزاءه إلا التأمل فيما يخبئه الشعر خلف أحزانه وأوجاعه من فرح فني مبهج ومحرض على الأمل الذي لا يمتلك إصابتنا بعدواه الباطنية العميقة إلا الشعراء الكبار حين يحيلونه إلى عمل فني خالد، يوازي تراجيدية ديمومة صراع الأضداد، مثلما فعل شاعرنا في هذه القصيدة وغيرها، ومثلما فعل من قبله عمنا الضخم «المتنبي» في «معجز أحمد»!
الدمام