مثل حركة المد والجزر: انكمش الكيان اليهودي من كل أنحاء العالم ثم تمدد على الأراضي الفلسطينية، تجاذبت عناصره من الشتات بعد فتح باب الهجرة اليهودية وانتظمت جميعها في العصبة الصهيونية لتكرس كل جهودها من أجل إقامة دولة إسرائيل. تم اغتصاب الأرض وبناء المستعمرات عليها بعد تهجير أبناء الشعب الفلسطيني كما خطط الصهاينة، ولكن هل كان يكفي أن تقوم دولة على عنصري الأرض والسكان فقط ؟
من الواضح أن هنالك حرباً غير العسكرية ضد فلسطين، حرباً أخرى ثقافية وحضارية تأخذ شكل مشاريع التهويد التضليلية التي تهدف إلى سرقة التاريخ والتراث الفلسطيني ونسب مأثوراته إلى اليهود وذلك بالعبث بمكونات هذا التراث وتزويره وتحريفه ثم تزييف حقائقه التاريخية لتتماشى مع الأساطير اليهودية. من أجل تكوين دولة في مكان ما لا بد من نهب الأرض أولاً، ثم الاستيلاء على ما فوق تلك الأرض من أجل تأكيد أحقية المغتصب في السطو عليها.
من المهم أن نذكر دائماً أن قيام الدولة الصهيونية اعتمد على أربعة أسس حيوية ومتدرجة:
1- أسطورة الوعد الإلهي بأرض الميعاد اليهودية المنتظرة.
2- يهودية البلاد تستدعي عودة اليهود إلى وطنهم.
3- العودة تنافي منطق الاستعمار وتضع مكانه مفهوم الاستعادة، فالرجوع يعزز أحقية الاسترجاع للأرض وما عليها.
4- أسطورة الفراغ: «فلسطين أرض بلا شعب، واليهود شعب بلا أرض»: ذلك يعني أنه ليس هناك شعب فلسطيني تاريخي، وليس هناك في التاريخ بلد اسمها فلسطين. وهذا هو ما أفصح عنه ابن غوريون أمام اللجنة الأنجلو أميركية للتحقيق عام 1945 قائلاً: «هذا البلد صنع منا شعباً، وشعبنا صنع هذا البلد. لم يصنع أي شعب آخر غيرنا هذا البلد، كما أن هذا البلد لم ينجب أي شعب آخر».
وهو قول تردده جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلي في حينه، لجريدة صاندي تايمز في 1969 أنه: «لا وجود للفلسطينيين، وليست المسألة أننا أتينا وطردناهم وأخذنا بلادهم. لا، إنهم لم يوجدوا أصلاً». لذلك كان لا بد أن ترتبط عملية تهويد فلسطين بطمس عروبتها وانتزاع كل أثر يدل على ارتباط شعب فلسطين بالبلاد. فاليهود حين استولوا على فلسطين كانت خالية من السكان.
ويعتمد ترويج هذه الادعاءات على أسلوب محدد ومزدوج هو: المحو والاستبدال، وذلك بالبدء بالتشكيك في معنى الاسم العربي فلسطين واستبداله بالاسم العبري «ايرتس يسرائيل»، الذي يحمل الصفة العنصرية الكامنة المقابلة للصفة الدينية في مسمى «دولة اليهود»، وهو الاسم الذي اختاره هرتزل سابقاً. ثم توالت عملية تهويد أسماء المعالم الفلسطينية التي طالت الملامح الجغرافية لأنهار ووديان وعيون وآبار وسهول وجبال وتلال ومغارات وطرق: فعسقلان أصبحت أشكلون، وبيسان أصبحت بيت شان، قرية سلوان أصبحت قرية هشيلوح وتل أبو هريرة أصبح هارور، جبل الدرج أصبح هار درجا، وعين السمن أصبحت عين شمونه، خربة المنارة أصبحت خربة منوريم، ومرج ابن عامر أصبح مرج يزراعيل وهكذا...
بعد أن استولى الصهاينة على الأرض، وأسكنوا فيها المهاجرين اليهود، وغيّروا أسماء معالمها، برز السؤال: هل تكونت الدولة المنشودة؟ ليس بعد!! تقتضي مسألة تجيير التاريخ للصالح اليهودي وإثبات حق اليهود في أرض فلسطين سرقة الوثائق التاريخية والتحفظ عليها، ثم تزويرها وادعاء ملكيتها. وقد نقل إلى الجامعة العبرية التي أسست في القدس كم هائل من المخطوطات تصل إلى الآلاف، كما آلت إليها مكتبات كاملة كان يملكها أهل العلم بفلسطين مثل مكتبة الشيخ أسعد الشقيري، ومكتبة الشيخ راغب الخالدي، ومكتبة الأستاذ درويش الدباغ اليافي، ومكتبة أديب فلسطين الكبير محمد النشاشيبي، وكذلك مكتبة العلامة المؤرخ عبد الله المقدسي وغيرها كثير.
لكن إسرائيل تظل تدرك جيداً أنها دولة طارئة تبحث عن جذور لها في المنطقة، وهي دولة مواطنوها أشخاص منقولون ومشردون، وهذه صفات تنافي كونهم شعباً ذا جذور ضاربة في المكان، فهم ليسوا من نبت هذه الأرض ولا علاقة واضحة تربطهم بها، وإنما هم غرباء ورعايا لقوة محتلة ما هي إلا نتاج مشروع استعماري. وفي سعيه الدؤوب لتغيير هذه الحقيقة ولاختلاق تراث إسرائيلي يربطه بالأرض تاريخياً، يقوم الكيان الغاصب بتثبيت فكرة أن لليهود جذورا تاريخية في المنطقة وذلك بانتحال الموروثات الشعبية للفلسطينيين وادعاء ملكيتها، فالقوة العسكرية تعجز عن تشكيل هوية ثقافية عريقة ومتماسكة.
يهدف التهويد إلى الاستيطان والتجذر ويسير وفقاً لعمليتي الإلغاء والإحلال، فبعد مصادرة الأراضي والاستيلاء عليها يتوافد اليهود من أنحاء المعمورة لتملكها، وذلك يعني تغييب سكانها الأصليين من الصورة ثم تذويب هويتهم وإلغاء وجودها المتفرد، ثم تأتي مرحلة تجريد هذه الهوية من خصوصيتها، وعندها يصبح من السهل الانقضاض على تلك الشخصية وتلبسها.
لماذا ؟! لأن بناء قومية جديدة تفتقر إلى مقومات الوجود الأساسية يحتاج إلى تأسيس ما يربطها بالمنطقة التي لا تنتمي لها أصلاً، كما يحتاج الأمر إلى توثيق الصلة بين الأرض وساكنيها وتعزيز تواصلهم مع ماضيها ومراحل تطورها. فالساكن الأصلي لأي أرض يكون راسخا فيها ممتلئاً بمكوناتها وخصائصها، ولبلورة هوية إسرائيلية أصيلة كان لا بد من افتعال تراث يشهد بتفاعل سكانها مع البيئة الطبيعية على مدى زمني طويل.
من أجل ذلك نشبت في سنوات التسعين معركة دبلوماسية ساخنة بين وفدي السلام الفلسطيني والإسرائيلي على الأرض اليابانية سميت «حرب الفلافل»، فقد فطن الفلسطينيون إلى أن إسرائيل تروج أكلات المطبخ الفلسطيني على أنها أطباقها القومية وعلى رأسها الفلافل والحمص والمسخن والمقلوبة والفول والتبولة والبابا غنوج، وقامت بعدها حملة عربية قوية شعارها (كفوا أيديكم عن أطعمتنا) وهدفها إثبات ملكية المأكولات التراثية، وخاصة رغيف الخبز الشامي الذي صار يسمى خبز البيتا.
تدخل إسرائيل مسابقات عالمية للطهو بالأطباق الفلسطينية وتسوقها معلبة أو تقدمها في المطاعم العالمية على أنها أكلات شعبية إسرائيلية. وبنفس الافتراء تظهر الفرق «الفولكلورية الإسرائيلية» في الحفلات العالمية بالزي الشعبي الفلسطيني وتؤدي رقصة الدبكة وتعزف «الشبابة والأرغول» وغيرها من الألحان الفلسطينية والعربية الأصيلة والشهيرة جدا ولكن بلكنة عبرية، مثل أغنية «الدلعونا». كما سعت إسرائيل إلى الاستحواذ على الأثواب المزركشة القديمة لأرشفتها في الموسوعات العلمية، ثم لعرضها في المعارض العالمية على أنها من صميم تراثهم. كما يظهر الملبس الفلسطيني التقليدي كاملاً مع الزنانير والكوفية المطرزة في خطوط الموضة والتصميم لبيوت الأزياء العصرية الإسرائيلية.
وقد تسربت تلك الملابس القديمة مع كثير من النحاسيات والصكوك المعدنية ومصنوعات الفخار وأدوات زجاجية تراثية ومنتجات فنية إلى المتاحف الإسرائيلية لتنضم إلى ما يسمى ب»التراث الشعبي الإسرائيلي» حيث يتم عرضها على اعتبار أنها آثار العبريين القدماء. أما في مجال المحكيات الشفوية فإن أرشيف الحكايات الشعبية الإسرائيلية قد صنّف منها المئات على أنها حكايات إسرائيلية، بعد أن تم استبدال الأسماء العربية فيها بأسماء عبرية، وتم حقنها بمضامين يهودية وتوراتية بحيث تعبّر زوراً عن جوانب متعلقة بتاريخ اليهود.
هل تنبهنا بعد كل ذلك إلى قيمة التراث الفلسطيني؟
هل أيقنا أنه أحد مكونات الشخصية الوطنية الحية ؟
هل مازلنا نجد من بيننا من يشكك بأهمية التمسك بتراث الأجداد وجمعه وتدوينه وإحيائه في نفوس الأحفاد قائلاً إنه من السخف المحافظة على التراث الشعبي إزاء ضياع الأرض ؟
إن التراث هو الإرث المتوارث الذي ينشأ من واقع ارتباط أي شعب بأرضه ارتباطاً موغلاً في القدم، والتراث هو الذي يحمل نبض هذا الشعب ويخلد هويته، ينبع من خصوصيته، ويبقى بشكل حصري له وحده لا يمكن أن يمتلكه مغتصب أو أن ينتزعه سلاح، إن هو حافظ عليه. لقد أدرك الكيان الصهيوني هذا الدور الحاسم الذي يلعبه التراث في بلورة الهوية الوطنية، ولهذا راح ينهب المأثورات الشعبية الفلسطينية ليختلق هوية فردية وجمعية جديدة لشعبه المنحدر من شعوب شتى دون تجانس أو ثقافة خاصة. هكذا يلتف الصهاينة حول تراثنا ويزرعون في أنفس أجيالهم الطالعة حس الانتماء إلى الأرض، فتؤدي مأثورات الفلسطينيين وظائفها الحيوية ولكن في الأوساط اليهودية، وهكذا نخسر آخر وأقوى جبهة من جبهات الاحتلال الإحلالي.
بات الحفاظ على تراثنا الأصيل عملاً وطنياً ومطلباً قومياً، فالسطو الإسرائيلي لا يطال التراث الفلسطيني وحده بل يشمل التراث العربي والإسلامي الذي يقع فريسة سهلة لمشاريع التهويد الثقافي، فالفلسطيني يشترك مع العربي المسلم في أبعاد عميقة وسمات متشابهة وأصول عريقة، وحين تضع إسرائيل يدها على ميراثه الثقافي فهي تهدد كل المأثورات العربية وتدعي امتلاكها تدريجياً. علينا إذاً توفير الحماية اللازمة لتحصين هذه التراثيات وإفشال عمليات السطو اليهودية المتكررة وفضحها. نحن مدعوون إلى دحض الادعاءات الإسرائيلية بامتلاك موروثاتنا وتمريرها تحت تعبير استعماري خطير، هو تعبير : ( الشرق أوسطي)، وهو تعبير خبيث تتمكن إسرائيل من أن تحشر به نفسها وسط الدول العربية لتشاركها امتلاك كل موروثاتها.
إن تراثنا، بكل جزئياته، بكل تمايزه واختلافاته، بكل أصالته وجمالياته، هو نحن، هو حضورنا ووجودنا، وهكذا يصفه الشاعر سميح القاسم بقوله: «عندنا فلكلور.. إذاً نحن موجودون».
جدة
lamiabaeshen@gmail.com