يُروى عن (مُحمَّد بن عيسى النظَّام) أنه قال: مات ابنٌ ل(صالح بن عبد القدوس)، فمضى إليه (أبو الهذيل) -ومعه (النظَّام) وهو غلامٌ حَدَثٌ-، فرآه حزينا مهموما، فقال له (أبو الهذيل): لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع لابد له يوماً من الحصاد! فقال له (صالح): يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب (الشكوك)! فقال له (أبو الهذيل): وما كتاب (الشكوك)؟ قال: هو كتاب وضعته، من قرأه شكَّ فيما قد كان حتى يتوهَّم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان! فقال له (النظَّام): فشُكَّ أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات، وشُكَّ أيضاً في أنه قد قرأ (الكتاب)، فانفرجت أسارير وجه (صالح)، وذهب ما به من غم!
تتبادر إلى ذهني هذه (الرواية التاريخية) الباسمة -بقطع النظر عن صحتها أو دقتها- كلما أمعنتُ النظر في أحد (المبادئ الفكرية) التي تنطلق منها مناهج (نقد ما بعد الحداثة)، والأسس التي تعتمد عليها في إرساء طريقة (الممارسة النقدية) التي تدعو إليها عند مقاربة (النصوص الأدبية)، تلك المبادئ التي يقف المرء عند بعضها مُندهشاً من (طريقة التفكير) التي أدت إلى تأسيس هذه (المبادئ) في الأصل، ومتسائلاً عن (السبب) الذي جعل هذه المناهج تضعها، و(السر) الذي يدعوها إلى التمسك بها، و(الغرض) الذي يمكن أن تبغيه من ورائها.
ومن أبرز تلك المبادئ ما نراه عند أصحاب مناهج (نقد ما بعد الحداثة) -وبالأخص عند أصحاب المنهج (التفكيكي)- الذين جعلوا من أساسات هذا المنهج النقدي (الشك المطلق) في (اللغة)، و(التشكيك) في تلك (العلاقة المفترضة) بين (الدال) و(المدلول)، و(انعدام اليقينية) في (المعنى) الذي يُمكن أن ينتج عنهما، و(عدم الثقة) فيما بين (اللفظ المكتوب) وما يدل عليه من (معنى مفهوم)، و(انتفاء القطعية) بصحة العلاقة بين (الصورة الصوتية) للنص و(المتصور الذهني) له، وعدم سلامتها واستحالة الاتفاق عليها.
ولأجل ذلك ارتبط هذا المنهج النقدي بالشك وعدم الجزم، وأصبح هناك تلازمٌ بين (التشكيك) و(التفكيك)، وأضحى (انعدام اليقينية) في (نظام اللغة) من أبرز المبادئ التي تُميِّز هذا المنهج، وصار (الشك) في العلاقات بين (الدوال) و(المدلولات) من أهم المبادئ التي يجب أن يراعيها الناقد (التفكيكي) عند مقاربة (النصوص الأدبية) ومُحاولة قراءتها.
وإذا حاولنا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا المبدأ لدى (التفكيكيين) فلا مناص أن نعود إلى الوراء قليلا لنكشف عن (الخلفية الفكرية) لهذا المنهج والأسباب التي أدت إلى ظهوره والملابسات التي أحاطت بنشأته، فمنذ أن فشلت (البنيوية) في تحقيق (علمية الدراسة الأدبية) ومحاولة (تقنين النقد) ووضع ضوابط وأحكام موضوعية أضحت (الساحة النقدية) مُهيأة لظهور الجديد، خصوصا بعد أن جعل (البنيويون) (النموذج اللغوي) مكان (العقل) كقوة جبرية، الأمر الذي أدى إلى قهر ذات (المبدع) و(المتلقي)، فظهرت استراتيجية (التفكيك) التي استطاع أصحابها نشرها وعرض أفكارها بذكاء سواءً من خلال نقد أسلافهم (البنيويين) وزعزعة فكرتهم الثابتة حول (البنية) والكشف عن طبيعة (التناقض المعرفي) بين (النص) و(الإساءات الضرورية) التي تَحدث في قراءاته، أو من خلال الدعوة إلى أدبيات (التفكيك) الذي يَعُدُّ هذا (التناقض) من أبرز مبادئه، وقد حدث هذا في عصرٍ كان (الشكُّ) من أبرز ملامحه، و(انعدام اليقينيات) من أهم مظاهره، وارتبط كل ذلك بفقدان الإنسان للأمن والأمان خصوصاً بعد (الحرب العالمية الثانية) التي انتهت باستخدام (الولايات المتحدة) لقنبلتين ذريتين ألحقتا دمارا شاملا في (هيروشيما) و(نجازاكي) مما أثار الرعب في النفوس من نتائج (التطبيقات التكنولوجية) للاكتشافات العلمية.
لقد أدت هذه الظروف التي نشأت (التفكيكية) في ظلها إلى ظهور بعض المبادئ المتصلة بطبيعة هذه الملابسات، حيث كان (الشكُّ) مُسيطراً على كل شيء، مما أنشأ لهذا المنهج (موقفاً فلسفياً) قائماً على (الشك) كان من أبرز تجلياته رفض (التقاليد) و(القراءات المعتمدة)، بل تَجاوز الأمر ذلك إلى رفض (النظام) و(السلطة)، حتى وصل الرفض والتشكيك إلى (النظام اللغوي) الذي يتم به الاتصال و من خلاله التواصل، الأمر الذي جعل (التفكيكيين) يتمسكون بِحُريَّة (القارئ) في (تقديم النص) و(إعادة كتابته).
وفي الوقت الذي كانت فيه (البنيوية) ترى أن (النص) (مُغلق) وليس له صلة بخارجه، وأن معناه (مغلق) كذلك و(نهائي)، وأنَّ الفهم الكامل للشكل العضوي للقصيدة مُمكن التحقيق كانت (التفكيكية) ترفض هذا، وتؤكد على الصراعات غير المنتهية و(الدلالة المراوغة) والتفسير (اللانهائي)، وقد كان من تبعاتِ (ردَّة الفعل) هذه أن صار (النص) لديهم (مفتوح) و(لا نهائي)، وأنَّ فهم القصيدة (عملية مؤقتة) لها (تاريخها الخاص)، وهو (تاريخ مراوغ)؛ بمعنى أنَّ هذا الفهم واكتمال الشكل قد يتحقق في زمن ما (للمتلقي) وقد لا يتحقق.
وإذا كانت (البنيوية) من جهة أخرى ترى أن معنى (النص) (متعدد) ما دام هذا النص يسمح بهذه (التفسيرات المتعددة) فإنَّ (التفكيكيين) يرون (لا نهائية) المعنى، لأنَّ كل قراءة (إساءة) قراءة، وأنَّ كل قراءة صحيحة إلى أن (تُفكِّك) القراءة نفسها بقدوم قراءة أخرى تفككها لتصبح (إساءة) قراءة.
Omar1401@gmail.com
الرياض