Culture Magazine Thursday  13/05/2010 G Issue 310
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الاولى 1431   العدد  310
 
آلية الاستدلال المنطقي بين الرفض والقبول
عبدالله بن محمد السعوي

ثمة مفهوم يجري تداوله وعلى نطاق واسع مفاده أن كافة القوانين المنطقية مجافية للصوابية وأن الحاجة لا تدعو إليها إطلاقا وأن ابن تيمية ينفي جوهرية إجراءاتها المتبعة ولا يقبلها بحال من الأحوال والحقيقة أن هذا ليس دقيقاً إذ ليس بوسع المتتبع للخطاب التيمي بعد حمل مجمله على مفصله ورد عمومه إلى خصوصه إلاً الوصول إلى نتيجة معاكسة نسبياً لذلك مفادها: أن ابن تيمية لا يرفض المنطق - كأحد علوم الآلة المطلوبة لغيرها إذ ليس له موضوع وجودي يخصه ككافة العلوم الجزئية وإنما موضوعه هو الفكر ذاته - بصورة عمومية وبشكل مطلق كما هو شائع – طبعاً هذا فيما سوى الفلسفة الأولى المثقلة بعناصر الخطل - في بعض الأوساط وإنما هو يقرر صحة كثيرمن قضاياه لكنه يتحفظ على قصر الصوابية عليها.

ومع أن الغموض والإطناب يلفان مجمل مفاصل البنية المنطقية فهما عنصران محوريان في آلية تصميم خريطتها الهيكلية إلا أن ابن تيمية بالرغم من ذلك يقرر وفي مواضع كثيرة جداً- إن كان على سبيل التصريح أو التضمين – إنه الآلية الأعمق جدوى والأضمن فاعلية والأكثر وفاء بالمطلب في بعض السياقات فهو مُجْد لجملة من المنتمين إلى بعض الدوائر المعرفية من ذلك الضرب الذي لا يكترث بالمتجليات ولا يعيرها أدنى اعتبار بقدر ما هو مأخوذ بما دقّ ولطف فمثل هذا قد «تعودت نفسه ألا تعلم إلا ما تعنت عليه وفكرت فيه وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة» الرد على المنطقيين 328

تصاعد وتيرة التجييش التيمي ضد المنطقِ الباعث على قدر كبير منه يكمن في الفَرق على العقل من تلك الإفرازات الناجمة من خطاب اللا هوت بانعكاساته البالغة السلب وخصوصاً على «من لم يقو الإيمان في قلبه حيث اعتقد أنه لا علم إلا بهذه المواد المعينة وهذه الصورة» الفتاوى 9-261

إن المنطق - علم التحليلات كما في التحديد المشائي - يحتوي على مواد صحيحة لاشك - بغض النظرعن مناقضة أربابها لها ف»صحيح المنطق لم ينتفعوا به في معرفة الله «الفتاوى 5-344 - وذلك كقولهم: بأن تصور الكلي لا يمنع من الشركة خلافاً للجزئي وكتقريرهم أن الكليات لا تكون كليات إلا في المحيط الإدراكي فحسب، و إن المطلق بشرط الإطلاق يستحيل وجوده خارج الوعي فإن «هذه قوانين صحيحة». الفتاوى 5-341

نعم ابن تيمية قرر أن «المنطق اليوناني لايحتاج إليه الذكي ولايتنفع به البليد» الفتاوى 9-82 لكن هذا الأمر بطبيعة الحال نسبي إضافي وفي مساق دون سياق ولذا كثيراً ما يؤكد أن ثمة من لا يجدي في حواره إلا الطريق المنطقية وهنا تكمن العوائد المثمرة لتلك الطرق ولذلك يقول: إن «الطريق الطويلة والمقدمات الخفية (يقصد المقدمات المنطقية) التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر وتنفع في المناظرة لقطع المعاند وتبكيت الجاحد» المرجع السابق.

ويقول: «نعم لا ينكرأن في المنطق ما قد يستفيد ببعضه من كان في كفر وضلال وتقليد» الفتاوى 9-24

ويمضي مقرراً أن الطريق المنطقي «وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقاً فقد ينتفع به في مواضع مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية دون ما هو أخفى منها ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم تكن مزية على العامة» درء التعارض 3-105

إن مخاطبة تلك العقول ومحاورتها أمر توجبه الدينونة الحقة وإذا كان الشأن كذلك تعين والمسألة هنا اعتبارية التعاطي عبر تلك اللغة التي تواضعوا على تداولها فإذا كانت تلك اللغة لغة منطقية وجب استدعاؤها ومن هنا تتعين الإحاطة بها، لا لذاتها وإنما لغيرها، أي أنه لابد من حوسلتها لأن: «مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة.. فإن هذا جائز حسن «الفتاوى 3-306 وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا لا ريب لأحد دون أحد.

إذاً فابن تيمية يقرر فائدة المنطق في هذا النطاق مع تشديده المتواصل على أن ذلك المردود الإيجابي له لا يُعزى إلى أن الوصول إلى الحقيقة لا يتاح إلا من خلاله وثمة بون بين كونه مفيداً وبين حصر الإفادة به فهذا هو ما ينفيه ابن تيمية مقرراً إبان تناوله للبرهان «أن حصر مواده فيما ذكروه من الأجناس المذكورة لا دليل عليه البتة فأصابوا فيما أثبتوه دون ما نفوه فمن أين يحكم بأنه لا يقين إلا من هذه الجهات المعينة» الفتاوى 9-260

ولا تعزى إجابيته إلى أنه الآلية المنسجمة مع مقتضيات الجبلة فهذا هو ما يُرفض هنا لأن الصحيح منه «أكثر الفطر السليمة تستقل به «الفتاوى 9-269 إذاً فمنفعته قافلة إلى طبيعة ذلك الضرب التفكيري الذي لا يجد ذاته إلا من خلال التعاطي مع المفردات اللطيفة ف»بعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له لأن نفسه اعتادت النظرفي الأمور الدقيقة فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته لا لكون العلم بالمطلوب متوقفاً عليها مطلقا فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات ولهذا يرغب كثير من علماء السنة في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة «الفتاوى 9-213 ويمثل لتلك العلوم بالجبر والفرائض ونحوها.

إن الطريق المنطقي هو الأجدى في حق من يجنحون صوب نمط من الصور الاستدلالية فلا يستجيد أحدهم بموجبه الفكرة ولا تروق له إذا طرحت بقالب مباشر ووفق آلية عذبة سلسة تتسلل صوب الإدراك بانسيابية. هذا اللون لا تبهره الفكرة ومن ثم لا يخضع لمنطلقاتها الضمنية إلا إذا نحت منحى مفعم بالتعقيد وكانت مبهمة الدلالة ومغلقة المعنى واحتاجت إلى كد الذهن مع أن الغموض في بعض صوره ليس إلا مؤشراً على فقر الفكرة وضآلة زادها من الرصيد المعنوي الأمر الذي يحد وكلون من التعويض صوب تلك القوالب التي قد تُستسمن - فهي كما البالون - مع أنها مثقلة بأدواء الورم

ثمة من هو مشغوف بالتعقيد ويعتقد أن الفكرة تفقد إشراقها ويخفت وهجها وينخفض مستوى جاذبيتها طالما أوردت على وجه تلقائي مباشر ولذا فمثل هذا النمط لا يخلب ذهنه ولا يستولي على عشقه إلا تلك الآليات «الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات» درء التعارض 8-87 .

ثمة من لا يستهويه سوى هاتيك المعابر المعرفية الوعرة حيث تحلو له العبارات الكزّة الغليظة المحتوية على قدر كبير من الغرابة فلا يذعن إلا لنتائجها» ولا يُسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية إما عنادا منه وإما لشبهة عرضت له أفسدت عقله وفطرته مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره» درء التعارض 8-85 .

ويقول: «كثير من الناس قد يألف نوعاً من النظر والاستدلال فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم يقبله وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب «درء التعارض 8-86 .

ويؤكد تلك الفكرة في موضع آخروذلك في كتاب الرد على المنطقيين قائلا: «وكذلك من كان به سفسطة ومرضت فطرته في بعض المعارف لا يستعمل معه الأدلة النظرية، بل يستعمل معه نوع من العلاج والأدوية فقد تكون الحدود والأمثلة التي تحوجه إلى النظر والفكر إذا تصورها مقدمة مقدمة مما يزيل سفسطته وتحوجه الى الاعتراف بالحق»

وهكذا ندرك أن الأسلوب المنطقي تتحتم محوريته في بعض السياقات إذ «قد يُزال به بعض الأمراض ويُقطع به بعض المعاندين» المرجع السابق.

ومن الجدير بالإيماءة إليه قبل مغادرة تلك المقالة هو أننا جميعاً وبدرجات متفاوتة نمارس بوعي أو بدونه آليات الاستدلال المنطقي وفي مختلف حياتنا اليومية. صحيح أن مجمل معارفنا نستقيها عن سبيل الملاحظة المباشرة وبدون وسائط كمعرفتنا مثلاً بأن هذه المادة حارة وتلك باردة لكننا في حقيقة الأمر نمارس الاستدلال المنطقي بآلية غيرمباشرة حيث ننطلق من محصول إلى مستحصل في عملية عقلية جدلية نتدرج عبرها من مدرك معلوم إلى مغيب مجهول ودونكم هذا المثال:

إذا دخلت في مكان ما وتجولت بصرياً في أرجائه فألفيته خالياً من الأشخاص ولكن تناهى إلى أنفك رائحة بقايا طعام تعج بها أجواء المكان حينئذ ستدرك أن شخصاً ما كان موجوداً ومن ثم غادر. هذه النتيجة استنبطتها من مقدمات محددة لورتبناها لأخذت شكل الاستدلال المنطقي كالتالي:

بما أن البشر هم الذين يلتهمون هذا اللون من الطعام وبما أن رائحة الطعام منتشرة في أركان المكان إذاً «فإن شخصاً ما كان يشغل قبل فترة وجيزة هذا المكان»

وبهذا يتجلى أننا نستخدم المقدمات ونستنبط ما أضمر فيها من نتائج على نحو ضمني في سياق الكلام فهذا نشاط ذهني مألوف للإنسان بغض النظرعن إتقان ذلك من عدمه وهل هو من قبيل الاستدلال المعتبر أو من ذلك الاستدلال المغالطي السفسطائي.

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة