ثقافة الكراهية لا سيما الطارئة منها تُحال آلياً إلى دوافع شخصية بحتة أو محرضات المرجعية الثقافية، ومنها المبرر ومنها العشوائي المتعسف ومنها المتحايل ومنها الصادق. والأزمة في فض هذه الثنائيات الضدية مرتهن ليس بقدرتنا بل برغبتنا في هذا الفض.
وحين نبسط رصدنا ودرسنا إزاء المتحول السعودي ورموزه ومهندسيه فكثيراً ما نلحظ هذه الازدواجيات السالبة في خطاب يزعم الانسجام في مفاهيمه المركزية، وعند التفتيش في هذه المتجاورات الشعورية المتناقضة نجد لزاماً علينا الدفع بها إلى سقوف وعنوانات ومحاضن أولى ربّت هذه الأيديولوجيات على مهارة الجمع بين متضادين والتأليف بينهما, وأعني هنا الخطاب الإصلاحي الليبرالي المرتهن إلى كراسات فلسفية يأخذ منها ولا يكاد يدع إلا على حساب ما يأخذ. وإذا أمعنَّا الفحص في تلكم التجذيرات التي أسست لهذا الخطاب والمحركات المؤثرة فيها، فسيصعد اسم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه كأبرز المشاريع الكاريزمية اللاعبة بنفاذ في صياغة السلوك الليبرالي وتحديد خياراته والتسليم بها كبديل عن التقليدي الذي لم يحقق للفرد الإصلاحي الحداثي الاكتمال أو (السوبر) الذي يطمح فيه، وكيف له ذلك والخطاب التقليدي - في حسبانه - يجعله تابعاً معطلاً يتعامل مع أنماط أخلاقية وفكرية جاهزة لم يكن له مشاركة في صياغتها أو اختيارها، فحدث الاندفاع المهول من فئة هذه صفاتها وتطلعاتها فتفاعلت بانبهار مع الغريب الفلسفي لا سيما نيتشه الذي زاد من (قوة إرادتها) في سبيل مواجهة التصادم مع التقليدي بعد أن وجدت فيه رمزاً لأخلاق القوة ضد شتى الإملاءات الغيبية إلى درجة تنظيره وتبشيره ب (موت الإله) مع اختلاف في تفسير هذا الموت وما عناه عن الإله الذي فسره بعضهم بالقيم وليس الذات على الرغم من عدم اكتراث نيتشه بهذه الذات ماهيةً وطبيعةً ووجوداً.
إن ما يبعث على الاستغراب عند استعراض علاقة مريدي نيتشه والمبشرين بمشروعه أن ثمة اختلافاً حادّاً بينهما يبلغ مبلغ العداء لو صدقوا في إيديولوجيتهم الإنسانية الكونية. ويتمثل هذا التضاد في نزعة شخصية خاصة لدى نيتشه انطبعت وتجذرت على نحو نظري اتخذت منحى إيديولوجاً خاصاً ومدرسة متكاملة لاقت قبولاً وذيوعاً لدى الليبراليين في العالم ومن بينهم السعوديون.
واللافت أن الليبراليين المريدين تعايشوا بحذر مع هذا المشروع وهذه الحالة المرضية العصية، فكان أن بشروا بنيتشه العلماني المتحدي للأديان والمبدع الأخلاقي بعد عملية فصل سيامي بينه وبين نيتشه العدو الأول (للديمقراطية) و(المرأة) و(المساواة) و(الرحمة) و(الحب) و(الأغلبية) و(العبيد) و(الزهد) و(العجزة) و(المرضى) و(الزواج) و(العقل) و(العدالة) و(الفلاسفة) وكثير من القيم الإيجابية التي يؤمن بها الليبرالي الجديد ولكن على استحياء من معلمه وقطبه نيتشه، وفي الوقت ذاته يشجع الإرهابي نيتشه (وفق الأدوات الليبرالية) على القوة المرتبطة بالعنف كقيمة مركزية لمنظومة الأخلاق, وحصر الصالح في المحارب، وحصر الحب في الاختيار الارستقراطي، ووصف الإصلاح بالحقد والشهوانية والدعوة إلى فضيلة التدمير، يقول: (المخالفة والخرق والاستغلال والتدمير لا يمكن أن تكون ظلماً أبداً لأن الحياة تعمل ضمن هذه الوظائف الأساسية). كما أنه يقدِّر بإجلال مواقف العنف لدى بسمارك وإيمانه بالنفعية اللاإنسانية، ووضع العقل في مواجهة الإرادة ووصفه للحب بأنه للحثالة وأن العدالة تعني اللامساواة، ووصفه الديمقراطية بالمخنثة ومناداته بالإنسان السوبر الذي وصفه في مكان لاحق بأنه لم يخلق بعد، وكذلك دعوته للقتل في تعظيمه للبارونات التيوتون المحاربين الذين نشروا المجازر والرعب فحققوا فضائل الرجولة, مع إيمانه المطلق بالضرورة أي القدرية والجبرية، وكراهيته للبساطة والتقشف وعمله على خلق تناقض داخل هذه الإيجابيات الأخلاقية بافتعال اجتهاد يتهمه بالتزوير ضد هذا الاختيار الإنساني الذي لا يمكن بسطه على الجميع لأن التعميم في المجال النظري من مطلقات العامة والغوغاء الذين ينالون الاحتقار البالغ من نيتشه وهذه من تناقضاته. وكل ما سبق يجعلنا نطرح إشكالية الخطر الذي ينطوي عليه التبشير بهذا الإرهاب المسمى بمشروع نيشته الفلسفي وما يدعو له من كراهية مجانية لا مبررة تجاه الأغلبية (الغوغاء) واتحاذ موقف صريح ينطوي على كشف وتعرية متعسفة لثنائياتهم الأخلاقية تعرية تنتهي إلى اتهامهم بتكلف أخلاق العبيد (المنحطة) والمذمومة وغير الإنتاجية ولا تخدم المشروع الإنساني البراجماتي النفعي. وفصل الإنساني واللاإنساني في مشروع نيتشه متعذر لتداخلهما وتكاملهما واتخاذ أحدهما مقدمة لنتائج الآخر. والإشكال الآخر هو مسؤولية مريدي نيتشه من الليبراليين ومحاولة التغطية على الجانب الإرهابي في فلسفته التي بشروا دون استثناء أو تنبيه، وهم الآن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بكشف هذا التناقض في فلسفته والتناقض في قبولهم له وفض الالبتاس النتشوي، مثلاً في تشبيهه الديمقراطية (المشبه) بالمخنثة (المشبه به) والانتهاء إلى تحذير منها. ولو نَدّ هذا التشبيه الآنف من أحد مشايخ الصحوة لوصفوه بالإرهابي.
إن نيتشه موهوب ومسكوت عن موهبته بل الليبراليون أنفسهم لا يتعاملون إيجاباً مع هذه الموهبة إنما مع الجرأة التي يستمدون منها معنوياتهم. وكشف مستور نيتشه مهم للوقوف على أسباب كراهية بعض مريديه لمجتمعاتهم وهم من يدعو للحب وهذا التناقض الشرير ذو مرجعية نتشوية بامتياز، ونقضه يكون بجمع الظاهر والمتستر عليه من فلسفة نيتشه لنضع الحالة المرضية على سريرها ونخلص مريديه من أبنائنا من كراهيتنا لأننا لسنا نتشويين.. فإلى مزيد من كشف أسباب الكراهية ومحاولة إزالتها والعودة إلى الفطرة السعودية (ما قبل نيتشه). وأنوه هنا إلى أن الزميل د.سامي الماجد هو أول من علق الجرس ضد ثقافة الكراهية عند نيتشه، فكان هذا المقال التنويري مني فاتحة أخرى في سبيل تعزيز الانسجام والحب الاجتماعي.
Hm32@hotmail.com
الرياض