رجل مختلفٌ حوله؛ فمن يحبُه لا يرى له عيوبًا، ومن يجد عيبًا واحدًا يسقطه من حساباته؛ ليبقى -لجيلٍ ممتد- قائدًا إداريًا متميزًا؛ يقدس العمل، ويعجب بالعاملين، ويكفيه أن «معهد الإدارة» ما يزال يذكره رغم مرور سنوات طويلة ( 1995م) على افتراقهما.
حازمٌ حد القسوة، وجاد فلا يكاد يبتسم، وعملي فلا يأبه بغير الإنجاز، يدور على موظفيه في تسعة أدوار كل وقت فيبقون مستيقظين؛ يحضرون قبله ويغادرون بعده، ويتداولون كلمته الأثيرة «أسعد الله صباحك» فوق تقاويم مكاتبهم إن مر ولم يجدهم؛ غير عابئ بسجلات التوقيع والترقيع، رافضًا تدخل أجهزة الرقابة الإدارية في أسلوب الحضور والانصراف، مؤكدًا أمامهم: «فلتكن أجهزتكم منضبطة كما المعهد ثم حاسبونا على شكلياتكم «؛ كذا مكتبُه ونهجه ومنطقه، لا يقبل تدخلًا في شؤون المعهد حتى بات «المعهداريون» يتسامون فوق بقية الورى الإداري.
كُتب عنه وقيل فيه وربما تجاوز الكلام درجة الملام إلى الوعيد والاتهام، وبقي معهد الإدارة – في ذروة سنوات ما سمي «الصحوة» - نائيًا عن الأدلجات والتجاذبات، وظل «مديرُه العام» حريصًا على اختيار الكفاءات العاملة بنفسه، وحين كبر الجهاز أوكلها لمن يثق به من لجان يتابعها بدقة؛ فبقي للمعهد لونُه وطعمه ورائحته التي احترقت واختُرقت في كثير من الأجهزة والمؤسسات العلمية والأكاديمية المشابهة.
لم يؤلف رغم قدرته؛ مكتفيًا بأبحاثه العلمية وأوراقه العملية، ومن يقرأ له يدرك ملكته الأسلوبية؛ وحين احتفل المعهد بيوبيله الفضي (1985م) كتب نصًا سرديًا جميلًا على شكل قصة توضح مسار معرفته بالمعهد والتحاقه ضمن هيئته، وظُن أنها كتبت له كعادة ذوي المناصب الكبيرة، لكن صاحبكم – وهو قريب من دائرته الإعلامية في المعهد – يدرك أنها نفْسه ونفَسه، وعجبنا: لم لا نراه في مشروعات تأليفية؛ لتبقى الإجابة في «نقص القادرين على التمام».
يحفظ لذوي الفضل فضلهم، وحين زار معالي الأستاذ فهد الدغيثر (وهو المدرسة الكبرى في تأريخ الإدارة السعودية الحديثة) وأثنى «أبو زياد» على ما رآه من تغيير وتطوير في المعهد أجابه «أبو غسان» بأنه إنما يرى غِراسه وقد استوت على سوقها، وفي كل موقف يشير إلى أدوار الأمير مساعد بن عبد الرحمن والشيخ محمد أبا الخيل والأستاذ تركي السديري في تأسيس ودعم أكبر منظمة إدارية عربية وربما عالمية بمواصفاتٍ باسقة سامقة.
قابله صاحبكم متخرجًا حديثًا؛ فلفت نظرَه خلوُ مكتبه من الأوراق والمعاملات، وعرف -بعدها- كيف هي سرعته مثلما دقته، وعمل تحت إدارته المباشرة وراقب كيف يحسم الأمور ويتخذ القرارات ولا يهمه إن رضي زيد أو غضب عمرو.
التقى به خارج «المكان» فرأى شخصًا مملوءًا باللطف والمرح والاهتمام، ورافقه في آخر عمل رسمي؛ حين أجبرنا على نقل المؤتمر الدولي للعلوم الإدارية إلى دبي بدلًا من الرياض في فترة الاتجاه الأحادي، وتأثر وزملاؤه بدمعة لم يحبسها وهو يلقي كلمة الوداع في ختام الفعاليات، وعاد للرياض، ولم ينتظر قرار تقاعده؛ فقد سلم مفاتيح مكتبه قبل صدور الأمر السامي بتعيين خليفة له، ثم افتتح مكتبه الخاص للاستشارات والتدريب امتدادًا لتخصصه وممارسته، ولم ينس أن يكون شكلُ مبناه مقاربًا لمبنى المعهد الذي نذر عمره له.
الدكتور محمد بن عبد الرحمن الطويل (1942م - شقراء) عمل في مصلحة الإحصاءات العامة ومعهد الإدارة، وكان أول من حمل درجة الدكتوراه في المعهد من «جامعة بيتسبرغ - بنسلفانيا 1974م.
غادر موقعه دون تكريم رسمي؛ فاجتمع عدد من تلاميذه ومحبيه وعملوا له احتفالًا يليق به دون أن يعبؤوا بدوافع تجاهله، ولو أنصف معنيو الإدارة لعرفوا أننا فقدنا قائدًا إداريًا نادرًا في أوج عطائه؛ فليته يقول حكايته بأسلوبه المترسل شاهدًا على فترةٍ خصبة قلقة متناقضة.
الإدارة أفق لا نفق.
Ibrturkia@gmail.com