تمهيد لا بد منه: قال الدكتور علاء الأسواني لمراسل صحيفة غربية كبرى كانت قد أرسلته ليكتب تحقيقا على شكل بروفايل مفصل عن علاء الأسواني كروائي: «بدو الصحراء لم يبدعوا أي شيء مطلقا»، وكان قبل ذلك في نفس البروفايل قد وصفهم بالتخلف!!! وعلامات التعجب من عندنا طبعا، وكانت هذه إشارة من علاء الأسواني لبني قومه ودينه من العرب المسلمين من شعوب شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، وجاءت في سياق حديث الأسواني مع كاتب البروفايل (وهو روائي هندي يعيش في بريطانيا وأصدر ستة كتب منها ثلاث رويات أي أكثر من إنتاج الأسواني) عن سبب تخلف المجتمع المصري حاليا بحسب رؤية الأسواني العنصرية الكريهة التي تتنافى تماما مع ما يدعيه في مقالاته وحواراته عن كونه ينتمي فكريا للتيار القومي الذي يسعى لوحدة الأمة العربية أو على الأقل التقريب بدل التنفير بين شعوبها. ورغم أن مثل هذه البذاءة اللفظية كانت معهودة سابقا بصورة رمزية ضد الأنظمة السياسية، لكن الأسواني هبط إلى الدرك الأسفل من الخصومة والعنصرية البغيضة عندما نقلها إلى الشعوب. ولذلك، وجدت من واجبي كمثقف ينتمي لهذه المنطقة، ويمارس الترجمة وهي نوع من الإبداع الذي أكد الأسواني لكاتب البروفايل أننا لا نعرفه، الرد عليه خاصة لأني أفتخر وأعتز تماما بكوني من أحفاد «بدو الصحراء» الذين حملوا راية الإسلام إلى كل مكان.
ولأن كاتب البروفايل كفاني البحث عن رد مفحم، وجدت في ترجمة هذا البروفايل الطويل (7000 كلمة) أفضل رد على الأسواني خاصة لأن كاتبه كشف بمهارة عن آراء شاذة للأسواني لا تنسجم مع مواقف الشارع العربي عامة والمصري خاصة الذي لن يعجبه، بكل تأكيد، ما ورد على لسان الأسواني في البروفايل من كلام شاذ مثل ازدرائه ردود فعل الشارع العربي والإسلامي الغاضبة على الرسومات الدنماركية، وكذلك دفاعه عن سلمان رشدي باسم حرية التعبير: «أنا لم أقرأ رواية «آيات شيطانية»، ولكن «مهما» كان محتواها فإنه لا يبرر صدور فتوى ضده»!!! وأيضا تهكمه على فكرة الاستشهاد في الإسلام: «شخصياً، أفضل معاشرة امرأة من هذا العالم على الذهاب إلى الجنة». وكان كاتب البروفايل ذكيا ولماحا حينما كشف وتهكم بقوة على العديد من مواقف وتناقضات الأسواني السياسية والأدبية والاجتماعية وحقيقة مستواه كروائي حيث قال: «لكن الأسواني لا يملك شيئاً مطلقا من مهارة أسٍلوب محفوظ المراوغ بحذر؛ فرواية «عمارة يعقوبيان» مكتوبة بأسلوب تفسيري مباشر». كما كشف كذلك تناقضاته الفكرية المضحكة بل ووصفه مع زملائه جميعاً بتهكم قاتل بأنهم «نخبة علمانية قومية تجاوزها التاريخ». ووجدت من الملائم بعد ترجمة البروفايل الذي اخترت له عنوان «تفكيك علاء الأسواني» لكي يعكس محتواه، وقررت أن يحتل الفصل السادس في كتابي المترجم القادم الذي يصدر في أوائل ديسمبر الحالي في بيروت عن «الدار العربية للعلوم - ناشرون» بعنوان «قضايا أدبية: نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية» أن أضيف مراجعتين نقديتين غربيتين لرواية الأسواني الثانية والأخيرة «شيكاغو» كملحقين للفصل السادس حتى تكتمل وتتضح الصورة عند القراء الكرام حول ماجاء في البروفايل عن تواضع مستوى الأسواني الفني كروائي الذي كشفه بشجاعة نقدية مذهلة الدكتور جابر عصفور دون خوف أو رهبة من لوبي «الأدب السياسي» (على وزن الإسلام السياسي) المساند للأسواني الذين احترفوا «التكفير السياسي» لأتفه خلاف. ولا يخفى على المتابعين وأنا منهم، أن الأسواني يبرر دائما عدم حصوله على جوائز مصرية للرواية بمواقفه السياسية المعارضة للنظام المصري، وهذا غير صحيح. بل الحقيقة هي أن مستواه الروائي ضعيف فنيا كما سنقرأ جميعا في هاتين المراجعتين الصريحتين حيث لا يوجد لوبي يساند علاء الأسواني ويخشاه الناقدون هناك كما في مصر وبعض الدول العربية. ولذلك وربما لهذا السبب بدأ الأسواني بعمل مثل تلك التصريحات الشاذة السابقة وغيرها كما ورد في البروفايل للصحف الغربية لعله يحظى بجائزة عالمية خاصة بعدما أخبر الكاتب بانه التقى كاتب إسرائيلي كبير في فرنسا وتصافح معه بكل احترام حسب وصفه، وكال المديح الكثير وغير المباشر لأمريكا واصفا الفترة التي قضاها هناك للدراسة أنها أجمل فترة في حياته، إلخ، إلخ. وبالفعل، حصل مؤخرا على جائزة أمريكية يستحقها على مثل تلك التصريحات والمواقف الشاذة عن الرأي العام العربي والإسلامي.
ويسرني أن يطالع قراء المجلة الثقافية هاتين المراجعتين اللتين نشرتا بعنوان «رواية شيكاغو» في ملاحق مراجعة الكتب لصحيفة الأوبزيرفر البريطانية وصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وتبقى تفاصيل البروفايل في الكتاب:
أولا: مراجعة رواية « شيكاغو» في صحيفة الأوبزيرفر اللندنية
«عرض كاريكاتيري يساهم في توسيع الفجوة بين الإسلام والغرب»
كتب وليام سكيدلسكي* في صحيفة الأوبزيرفر اللندنية، بتاريخ 28 سبتمبر 2008 المراجعة التالية:
الروايات عن المهاجرين منتشرة بكثرة في الوقت الحاضر. في الأشهر القليلة الماضية صدرت كتب عديدة عنهم لكل من ألكسندر هيمون وإيفا هوفمان وكريس كليف. وفي وقت سابق من هذا العام فازت روز تريمين بجائزة «أورانج» البريطانية عن روايتها «الطريق إلى الوطن»، التي تحكي قصة امرأة مهاجرة من شرق أوروبا قدمت لتعمل بنجاح في بريطانيا. ويمكن أن يقال إن معظم هؤلاء الكتاب تناولوا الموضوع بطريقة «متفائلة»، لأنهم اعتبروا أن هدف الهجرة المتمثل في صنع حياة ناجحة في بلد جديد «قابل للتحقق بشكل واضح وملموس». إنها وجهة نظر تبلورت عبر الواقع المعاش في هذه الأيام للهجرات الجماعية الناجحة. فالإضافة إلى مزايا مفيدة للعولمة، وبفضل السفر والإنترنت والفضائيات، تلاشت تقريباً الحدود بين البلدان وأصبحت أكثر نفاذية مما كانت سابقاً، وفي هذه الأيام عندما تهاجر إلى الخارج يمكنك أن تأخذ العديد من خصائص الحياة القديمة معك.
ولا يزال ممكناً، بالرغم من ذلك «الشك» في ما إذا كان يمكن للهجرة أن تكون مشروعاً ناجحاً كلياً، وهذا هو ما يفعله علاء الأسواني بصورة عامة في روايته الجديدة «شيكاغو». و«مثل» كتابه الأخير، «عمارة يعقوبيان»، رواية «شيكاغو» تقدم بورتريه عن قرب لمجتمع مصري، على الرغم من أن شخصياتها هذه المرة ليسوا من سكان مبنى سكني في القاهرة لكن طلاب وأعضاء هيئة التدريس في كلية الطب بجامعة إلينوي. رواية «شيكاغو» تقدم شخصيات «مصرية» متنوعة كثيرة «مثلما» فعلت «عمارة يعقوبيان» ،ومرة أخرى يسرد الأسواني حيواتهم المتداخلة بمهارة مثيرة للإعجاب.
وكما أشار العديدون دائماً قبلي، الأسواني بالتأكيد كاتب «تقليدي» من «الطراز القديم» Old-Fashioned ، يعتمد على حبكات روائية «معروفة» ابتكرت وصنعت باتقان «قبله»، كما يعتمد على «شخصيات واضحة ومحددة» من دون غموض يكتنفها. ولا شك أن هذه الأمور تجعل أعماله «الواضحة والمباشرة» ذات جاذبية جماهيرية وتبيع جيداً على حد سواء في الدول العربية والغربية.
ولكن «شيكاغو» تبقى، مع ذلك، أقل مباشرة وأكثر إشكالية من سابقتها؛ فعن طريق تحويل الموقع إلى أمريكا، يطرح علاء الأسواني أسئلة على شخصياته - و«جميعهم» مصريين باستثناء قلة - ليست مطروحة على أولئك الذين في «عمارة يعقوبيان» مثل: «إلى أي مدى يجب على المهاجر أن يتمسك بهويته القديمة ويبقى وفياً لبلده الأصلي؟» و«هل يمكن للناس حقاً وبأية طريقة/وقت التخلص من الهويات التي ولدوا بها ويصبحوا أعضاء أصيلين في مجتمع جديد؟».
هذه أسئلة جوهرية ولا شيء تافه فيها، بل يمكن أن نقول إن الانسجام في جزء كبير من «عالم ما بعد 11 سبتمبر» يعتمد على إجاباتها. أمريكا، وهي أمة من المهاجرين، تأسست على الاعتقاد أن الارتباطات القديمة يمكن السمو عليها، في حين أن الثقافات الإسلامية تميل إلى طلب طاعة صارمة من رعاياها حتى لو هاجروا بعيداً عن ديار المسلمين. وفي تقديم تصادم وجهتي النظر السالفتين، يكون علاء الأسواني قد كتب رواية في «توقيت» مناسب للغاية حتى لو كانت هذه «ميزتها الوحيدة».
شخصيات الرواية تتراوح أعمارهم بين أوائل العشرينيات حتى أواخر الستينيات، ويواجهون تحديات حياتهم الأمريكية بطرق مختلفة؛ فمن جهة متطرفة هناك رأفت ثابت، أستاذ الطب، الذي يرى كل شيء في مصر «متخلفا» ليتحول طموحه أن يصبح «أمريكيا أصيلا ونقيا من دون شوائب عربية». وفي الطرف المتطرف الآخر هناك السيد دنانة، الرئيس الشاب لاتحاد الطلاب المصريين في أمريكا، الذي يلعب دور طالب وطني بينما يعمل سراً كجاسوس مع المباحث المصرية.
شخصيات أخرى تحاول، وربما ببراءة أكثر من تلك، أن تسكن في منطقة وسطى. هناك شيماء، وهي طالبة طب ذكية ومن خلفية اجتماعية ريفية متواضعة، والتي تقع في حب طالب زميل وتتخلى تدريجياً عن القواعد العربية الإسلامية الصارمة لممارسة الجنس. وهناك ناجي، وهو منشق مشاغب تعجبه الحريات الجنسية الأمريكية مع محاولة استغلال أي فرصة لصنع مؤامرة تسقط الحكومة المصرية.
ولكن الشيء الوحيد الذي تفشل جميع الشخصيات في تحقيقه، مع ذلك، هو صنع توازن مرضٍ بين ذواتهم «المصرية» و«الأمريكية». أولئك الذين يتخلون عن جذورهم يدفعون ثمناً باهظاً: ابنة رأفت ثابت الوحيدة تحب مدمن مخدرات ثم تهرب معه، في حين تتخلى شيماء المحافظة عن عذريتها لصديقها الذي ليس لديه نية الزواج منها. وأولئك الذين يحافظون على هويتهم المصرية لا يحصدون شيئاً أفضل: اجتهاد دنانة الدراسي ظاهرياً، على سبيل المثال، ينهار عندما يكتشف أستاذه أنه قد غش في المشروع البحثي.
أسلوب رواية شيكاغو «الخفيف» دائماً يحاول أن يخفي في كثير من الأحيان رؤيتها التشاؤمية. الرواية تشير إلى «عدم وجود» إمكانية حقيقية للسمو بنجاح فوق الخلافات/الفجوات الثقافية: الهويات الوطنية ثابتة ومنيعة، وأي مصري يحاول أن يصبح أمريكياً سيحكم على نفسه بحياة تعيسة.
من حق الأسواني تماماً اعتناق مثل هذه الآراء المتطرفة، وهو مصيب أيضاً في كون الهجرة نضال دائم. لكن تشاؤم الرواية ينكشف «زيفه» في نطاق معين، وهي طريقة تقديمه السطحي لأمريكا. وفي حين أن فهمه للثقافة المصرية دقيق، فإن فهمه لأمريكا جلف وناقص. وعندما يكتب عن غير مجتمعه المصري، فإنه غالبا ما يكتب أشياء خاطئة بصورة هزلية ومضحكة. هناك مشهد يبين امرأة سوداء تتعرض علناً لنوع من الهتافات العنصرية التي لم تكن ممكنة حتى في عصر مارتن لوثر كينغ، وعندما تستنشق فتاة كوكايين لأول مرة يصفها ب«المدمنة». هذا الفهم الهزلي يأتي من بعض أفلام هوليوود السيئة ومن المنشورات السياسية المعادية للولايات المتحدة، وليس نابعاً في الحقيقة من واقع الحياة المعاش.
الأسواني روائي «واقعي» ولذلك يعتمد عمله على جعلنا نعتقد أن ما يكتبه نوعاً ما حقيقي، أو على الأقل مقبول عقلياً. إذا كان أحد جوانب رؤيته غير واقعي، فإن هذا يعرض الصرح بأكمله للخطر. بل أكثر من هذا، عرض الأسواني السطحي لأمريكا ينتقص من تحليله الإنساني الدقيق في الغالب للقضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى التي تعرضها روايته. إذا كنت تريد معالجة قضية «صدام الحضارت»، فيبدو من الواجب والمهم أن تؤمن محاكمة عادلة للطرفين وتمنحهما فرصة متساوية للحديث. ولكن عندما يصور الأسواني أمريكا بطريقة كاريكاتيرية، فإنه «يساهم في توسيع الفجوة بين الإسلام والغرب».
الأسبوع القادم بحول الله تنشر مراجعة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية للرواية
* وليام سكيدلسكي: كاتب بريطاني متخصص في نقد الكتب في صحيفة الأوبزيرفر اللندنية التي تعتبر أقدم جريدة تصدر يوم الأحد في العالم حيث تأسست عام 1791، واشترتها جريدة الغارديان (يسار-وسط) في عام 1993، وعمل سكيدلسكي من قبل نائباً لرئيس تحرير مجلة بروسبكت البريطانية المرموقة، وقبلها كرئيس للقسم الأدبي لمجلة نيو ستيتمان اليسارية البريطانية العريقة.
* * *
كاتب ومترجم سعودي
hamad.alissa@gmail.com
المغرب