يثبتُ الخيالُ (المصطنعُ) أنه سيظلّ قاصراً كلما تطاول على قامة الواقع، وكلما تطوّرت أدوات التقنية الحديثة ازداد خيالها عجزاً عن الوصول إلى الصورة (الحقيقية) كما هي موثقة في الذاكرة شاهدةً على أرض الواقع السحيق - المتجدد أبداً..
وكلنا نذكر تلك الأيام التي عقبت الحرب الأمريكية الأخيرة على العراق، وسقوط بغداد، واختفاء الرئيس العراقي (صدام حسين) وكيف كان شكلُ الصور (المتخيلة) التي وزعتها القوات الأمريكية وتظهر فيها ملامح (وجه) صدام -الذي ظنوه متنكراً- حتى تسهّل على الطامعين في المكافأة المالية الضخمة القبضَ على (صاحب الصورة المتخيلة)!
كان الوجه في تلك الصور المتخيلةِ حليقَ الشاربين،مرةً، وب(قصّات) شعر غريبة للرأس واللحية مرّات، وبأشكال كاريكاتورية لم يستطع (الكمبيوتر) أن يأتي بغيرها.. بينما لو سألتَ أيّ إنسان عاديّ (أو حتى بدائيّ) عن تصوّره لما بات عليه وجهُ صدام حسين بعد بضعة أشهر من التخفي، لقال لك فوراً: سيكون وجهه ممتلئاً بلحية بيضاء كثة وسيكون شعر رأسه أطول من المعتاد؛ لأن الواقع يقول أن لا وقت لدى الرجل ولا الظروف تسمح له بأن يعتني بتهذيب (أو صبغ) شعر اللحية والرأس. وذاك ما كان فعلاً، حين ظهرت صورته: لم يتغير من ملامحه شيء سوى لون وطول شعر اللحية والرأس.
تذكّرتُ تلك الوقائع وأنا أتابع مسلسلاً تلفزيونياً عن (عنترة بن شداد) (1) كتبه غسان زكريا وأخرجه رامي حنا (وهما شابان مبدعان من سورية) ويبثه - حالياً - التلفزيون السوري (قناة الدراما).. فبرغم الجهد الواضح في التأليف والإخراج والتصوير والحشد الكبير لنجوم الدراما العرب، وتعيين متخصصين للمراجعات التاريخية واللغوية، إلاّ أن الأخطاء الناجمة عن تلك الاجتهادات كلها تجعل العمل مثيراً للغيظ أكثر منه مثرياً للمتعة والثقافة..
لن أفصّل في المغايرات التي أحدثها السيناريو للتاريخ المدوّن، فمعظم التدوين كان خيالاً أيضاً (!) ولكنّ الوثيقة التي لا ينبغي تجاوزها أبداً تتمثل في (القصائد) ومصداقيتها، بخاصة في نقل (الصورة) التي كان عليها الشاعر بالأساس..
ولأنني المعنيّ بأمر الشعراء الصعاليك، بخاصة (الشنفري) (2) ولاميته، فقد جزعتُ من مسلسل (عنترة) وهو يقحم قضايا الصعاليك ويجعلها تتماهى مع قضية عنترة بن شداد وتخدمها؛ ولأنني كما قلتُ (لن أفصّل) فسأكتفي بالتركيز على (صورة) الشنفرى التي تظهر في المسلسل عادية تقليدية لرجل يرتدي الزي العربي (التاريخي) ويغطي رأسه بعمامة - كالتي يظهر بها أمراء المؤمنين عادة في المسلسلات! - وينتعل في قدميه (بسطالاً) سميكاً، كمن يحافظ جيداً على حماية (ونعومة) قدميه!.. والأدهى من ذلك كله أن المخرج أتى بممثل على درجة من السمنة (أو الوفرة البدنية) ليؤدي دور الشنفرى..!
لستُ أدري، ألم يقرأ المشتغلون على المسلسل لاميةَ العرب كما يجب أن تكون القراءة؟
يقول الشنفرى في وصف صورته بدقة:
(وأطوي على الخَمص الحوايا كما انطوتْ
خيوطةُ ماريٍّ تُغار وتُفتلُ
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا
أزلُّ تهاداه التنائفُ أطحلُ)
ومعنى البيتين أنه يطوي بطنه على جوعٍ حتى غدا نحيلاً كالذئب المشرّد في غبار الصحاري.. ويقولُ أكثر في وصف حاله وجسده:
(وآلفُ وجهَ الأرض عند افتراشها
بأهدأ تنبيه سناسنُ قُحَّلُ
وأعدلُ منحوضاً كأنّ فصوصه
كعابٌ دحاها لاعبٌ فهي مُثَّلُ)
ومن المعاني هنا، أنه كان يفترش الأرض متوسداً عظمة ذراعه التي لا لحم يكسوها، وإن قام فإن فقار سلسلة ظهره تبرز يابسة إذ لا لحم يغطيها، ولا لحم يملأ ما بين مفاصل عظامه بارزة الفصوص - كأنها أحجار مكعبة تصلح للعب!
أما عن لباسه وشعر رأسه، فيقول:
(نصبتُ له وجهي ولا كِنَّ دونه
ولا سِترَ إلاّ الأتحميّ المرعبلُ
وضافٍ إذا هبّت الريحُ طيّرتْ
لبائدَ عن أعطافه ما ترجّلُ
بعيدٌ بمسّ الدهن والفلي عهده
له عَبسٌ عافٍ عن الغسل محولُ)
الكنّ: ما يستتر به، الأتحميّ: القميص أو الثوب، مرعبل: ممزق، ضافٍ: طويل، لبائد: ما تلبد من الشعر المكشوف للمطر والريح، أعطافه: جوانبه، ترجّل: يقصد به تسريح الشعر أو تمشيطه، الفلي: التنقية، عبس: أوساخ عالقة، محول: مرور عام كامل وأكثر..
فكيف بعد هذا كله يظهر الشنفرى في المسلسل أنيقاً معتنياً بهندامه (وسكسوكته!) وغطاء يتوّج شعرَ رأسه النظيف.. بينما هو متوغلٌ في الصحراء لإتمام ثأره؟!
تبقى القشة التي قصمت ظهر الصورة، تتمثل في (البسطال) العسكريّ الذي كان يلبسه الممثل وهو يركض مؤدياً دور الشنفرى.. مع أن البيت في اللامية واضحٌ وصريح:
(فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً
على رقةٍ أحفى ولا أتنعّلُ)
أحفى.. ولا أتنعّلُ؛ أفبعد هذا التصريح والوصف والالتزام بهيئةٍ معينةٍ أرادها الشاعر لنفسه، وكانها عن جدارة (مشبهاً نفسه بابنة الرمل «الحيّة» تحت الشمس) نأتي بصورةٍ مخالفةٍ لذلك كله فنركّبها عليه، لنجعل الواقع المدهش الراسخ خيالاً باهتاً مرتبكاً..؟!
أمّا الطامة الكبرى على صورة الشنفرى وشخصيته وقصيدته (لامية العرب) فهي حين قرأها الممثل (واسمه سهيل جباعي) القائم بدور الشنفرى، إذ قال في أحد أبياتها:
(فأيمنتُ نسواناً) (3) بدلاً من (فأيّمتُ نسواناً وأيتمتُ إلدةً وعدتُ كما أبدأتُ والليلُ أليَلُ)!
وهكذا.. فحين رأيتُ الأخطاء في المسلسل بلغت هذا الحد، ولا أزال أشاهد الحلقة الحادية عشرة (لا أعرف كم عدد الحلقات المتبقية) أدركتُ أنني لن أخرج بعد انتهاء هذا المسلسل إلاّ بمزيد من الغيظ والاستياء..
في المقابل أذكرُ، قبل أكثر من عشرين عاماً، حين كانت التقنية التلفزيونية أقلّ مما هي عليه الآن.. أن مسلسلاً تلفزيونياً كانت تعرضه القناة الأولى في مصر اسمه (شعراء ولكن صعاليك) (4) من إخراج تيسير عبود وسيناريو وحوار طه شلبي، وكان يقوم بدور الشنفرى الممثل المصري الفنان محمود مسعود وقد أبدع حقاً في نقل صورة الشنفرى كما جاءت في قصيدته تماماً: نحيل الجسم ممزق الثياب مغبرّ الوجه والشعر كاشف الرأس حافي القدمين يملؤه الشموخ والعنفوان..
كان المسلسل القديم (عن الصعاليك) منفذاً بإمكانيات محدودة للغاية، وكان التصوير كله تقريباً يتم في الصحراء وبلا أيّ ديكورات أو إكسسوارات تذكر.. بينما المسلسل الجديد (عن عنترة) فقد بدا البذخ فيه واضحاً ومبهراً حتى أنّ الأزياء كانت تنافس آخر ما توصلت إليه (الموضة) في الملابس وأدوات التجميل!
ومع ذلك كله، فكلّ مقارنة بين المسلسلين تؤكد أن العمل القديم (الواقعيّ لدرجة تنأى عن الخيال) كان عملاً عظيماً يضع المشاهد في (صورة) السيرة بكل تفصيلاتها وتفاصيلها المثيرة والخارقة.. أما المسلسل الحديث، فلا واقع فيه سوى أسماء الأشخاص والأماكن والأحداث، لأن الخيال طغى على السيرة كلها فأفشلها لصالح (ابتداعاتٍ) مجانية - رغم كلفتها المادية الباهظة - ولا شيء يبررها إلاّ مواكبة العصر الجاري الذي يتعارض مع العصر الافتراضيّ المسمّى كعنوان لا أكثر؛ ولم تكن (الفانتازيا) المدهشة إحدى نتائج ذلك الخيال القاصر..!
1- مسلسل (عنترة) من إنتاج عام 2007 غير أنني لم أشاهده إلاّ هذه الأيام.
2- (الشنفرى) بالألف المقصورة وليس بالياء، ولكن: كلما جئتُ على ذكر اسمه في مقالة فوجئتُ به منشوراً (الشنفري) بالياء، وذلك خطأ ليس من عندي.
3- (أيَّمَ نسواناً): قتلَ أزواجهن، أمّا (أيمنَ) فلا مكان لها في النص!
4- أذكر أنني حصلتُ على المسلسل منسوخاً في أشرطة فيديو، لعدم وجود فضائيات آنذاك، وأظنه عرض في التلفزيون السعودي بعد ذلك.
ffnff69@hotmail.com
الرياض