في واحدة من زياراتي لموسكو سألت رئيس تحرير مجلة (أعمال الكتاب) الروسية عن إمكانية تسويق كاتب عربي في روسيا، فصمت قليلاً ثم تساءل عن الجدوى الاقتصادية من تحويل كاتب عربي إلى (علامة تجارية)، وعن إمكانية استعادة الأموال الكبيرة التي ستنفق لتحويل أيٍّ من الكتاب العرب إلى علامة كهذه وتحويل كتبه، بالتالي، إلى سلعة تحمل الاسم العلامة! واستبعدَ أن يكون ذلك مجدياً؛ فلن تجد مؤسسة تسويق كتب، ناهيك بدور النشر، تقدم على مغامرة كهذه، خاصّة أن الكتّاب العرب لا أحد يعرف عنهم شيئاً في سوق القراءة الروسي، وعلى الأرجح لن تكون موضوعات كتابتهم مغرية للقارئ الروسي.
وفي زيارتي الأخيرة لموسكو، نهاية الصيف الماضي، رحت أتأمل الصعود المذهل للكاتب البولوني يانوش فيشنيفسكي إلى قمة الشهرة في أوروبا بعد قرابة عامين من نشره روايته الأولى (وحدة في شبكة النت)، الرواية التي حوّلها إلى ثلاثية مضيفاً جزءين آخرين عليها. بعد عام من صدورها حُوّلت الرواية إلى فيلم عرض في مهرجان موسكو السينمائي 2007. بعدها نشر فيشنيفسكي الذي يعيش الآن في فرانكفورت على الماين روايات عدّة (ما الحاجة إلى الرجال؟ - نظرية النسبية الحميمة - العشيقة - جزيئات العواطف - تكرار القدر - مشاهد من الحياة وراء الجدران - سرير...إلخ)، أظن مجموعها 13 رواية في عامين.
مع روايته الأولى أُنشئ موقع إلكتروني خاص لمناقشة أعمال فيشنيفسكي، وبطريقة ما حقّق الموقع أرقام ارتياد عظيمة. وقبل أن يكتمل العام الثاني على تحوّل فيشنيفسكي حائز الدكتوراه في المعلوماتية والدكتوراه في الكيمياء والباحث في البيولوجيا الجزيئية، إلى روائي معروف، صار، بفضلٍ من مؤسسة تعرف مصلحتها وتجيد تحقيقها، إلى علامة تجارية، وتم تحويل رواياته إلى سلعة رائجة.
صحيح أن فيشنيفسكي لم يُصنع من فراغ؛ فرواياته من النمط الجديد المشبع بالمعرفة. معرفة فيشنيفسكي العلمية العميقة الموظّفة في رواياته تستجيب لتحوّل ملحوظٍ في الرواية الأوروبية والأمريكية نحو (الرواية المعرفية)، إذا صح التعبير، المُعدّة لقارئ لا يبحث عن الحكاية في الرواية ولا يعنيه مصير الأبطال بمقدار ما تعنيه صيرورته هو شخصياً، المعرفية والقيمية، بين دخوله عالم الرواية وخروجه منها، فإذا خرج منها كما دخلها كان ضياع الوقت والمال!
ومع ذلك فقد كان يمكن لفشنيفسكي أن يكون عارفا متبحرا في علمه وروائيا جيدا ويبقى في الظل لولا مصلحة (تجارية) و(ثقافية) وربّما (سياسية) وجدها صانعو النجوم فيه، فتحوّل بفضل من هذه المصلحة إلى نجم، فيما بقي آخرون، قد لا يقلّون عنه معرفة وموهبة، في العتمة. وذلك كلّه لا يعيب فيشنيفسكي ومن نالوا الشهرة مثله، إنّما يدعو إلى التساؤل عن أسباب غياب المصلحة في تحويل كتّابنا إلى علامات تجارية عالمية! فهل العلّة في ٍالإبداع أم في التجارة أم السياسة؟
دمشق