Culture Magazine Thursday  02/12/2010 G Issue 323
فضاءات
الخميس 26 ,ذو الحجة 1431   العدد  323
 
الأقسام الأدبية وأسطورة المنهج الفني
أ.د.خالد بن محمد الجديع

لا أعرف تخصصاً علمياً دخله من الزيف والتلفيق والمغالطات مثل تخصص الأدب، ولارتباط النقد به لحقه ما لحق الأدب من فوضى المصطلحات واضطراب التطبيقات وجرأة المنظرين له.. ذلك أن الأدب إبداعاً لا يرتبط بتخصص معين.. فيمكن للطبيب والمهندس ومعلم الرياضيات والعلوم الطبيعية أن يكون شاعراً أو قاصاً أو حتى روائياً.

ليس ثمة اعتراض على امتهان أولئك لحرفة الأدب، فالتاريخ على امتداد حقبه وعصوره لا يربط الإبداع بمهنة دون أخرى، ولكن الخطورة تكمن حينما يظن أولئك أن حق النقد الأدبي الذي يقوم على أسس وقواعد منهجية مكفول لهم بوصفهم منتجين للعمل الأدبي.

وأحسب أن أهم عامل مساعد لأولئك القوم على هذا التوهم وعلى هذه الجرأة هو تباين آراء المتخصصين في النقد واعتماد كثير منهم على العبارات الإنشائية والذائقة الشخصية عند معالجة النصوص الأدبية.

ويتفاقم الخطر حينما تتم هذه الممارسات تحت قبة الكليات المتخصصة وداخل أروقة الأقسام الأدبية.. ذلك أن طلاب الدراسات العليا - وهم النخبة - سيظنون أن تلك هي طبيعة النقد الأدبي، وبالتالي ننتج جيلاً مُضَلَّلا فاقداً لأقل الآليات والمناهج التي يتم من خلالها درس الأثر الأدبي.

ويمكن أن نلمس هذه المشكلات بوضوح في المشروعات البحثية التي يقدمها طلاب الأدب والنقد في الدراسات العليا، فهناك من سيطبق في رسالته المنهج الوصفي، وهناك من سيلتزم المنهج التحليلي، وآخرون سيعتمدون المنهج الاستقرائي، مع أن هذه المناهج ليست نقدية، فقد تسللت إلى عالمه من خلال مناهج طرق التدريس والعلوم الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها ليست خصيصة لمنهج نقدي دون سواه، فكل المناهج النقدية تحوي وصفاً وتحليلاً واستقراءً.

وإذا كان مثل هذه التطبيقات طارئاً على النقد وليس نابعاً منه فإن الخطورة الكبرى تتمظهر في منهج وُلِد وترعرع في أحضان بعض الأقسام الأدبية، ثم نما وتكاثر بشكل عجائبي هجين، فأضحى يضم أشتاتاً من المناهج والآراء الملفقة، ذلكم هو ما اصطلح على تسميته ب(المنهج الفني)، هذا المنهج القادر على التشكُّل حسب الجنس الأدبي، فمن خلاله تقارب القصيدة والخطبة والرسالة والمقامة والمقالة والقصة والمسرحية، ويصمد هذا المنهج المزعوم - حسب رأي أصحابه - لعناصر النص كافة من عاطفة وفكرة ولغة وصورة وإيقاع وبناء وحدث وزمان ومكان وشخصيات، إنه المهيمن القادر على التعامل مع الأدباء على اختلاف عصورهم واتجاهاتهم.. لأنه بكل سهولة - كما يقول أربابه -: (أقرب المناهج الأدبية إلى طبيعة النص الأدبي).

إنه المنهج الذي يمكِّن القارئ ليقول كل شيء عن النص دون حسيب ولا رقيب، وعندما نروم تلمُّس أصوله الغربية - كسائر المناهج - ونحاول البحث عن أبرز أعلامه لا نظفر بشيء.

ولعل بعض مدشني هذا المنهج قرؤوا طرفاً من المنهج الجمالي - الذي يختلف في آلياته ومنطلقاته عما يُسمى المنهج الفني - وتعود بدايته إلى الناقد الأمريكي جون كرو رانسوم، وربما أنهم سمعوا عن تحليلات هاته المدرسة التي أنجزها هذا الناقد حول أعمال وايفورونتر ووليام إمبسون وتي إس إليوت والتي حاول فيها التركيز على المعنى النصي للعمل الأدبي بدلاً من الاتجاه إلى تفسيره على ضوء الظروف الخارجية - كسائر المناهج السياقية - التي أحاطت به، أو العوامل التي أثّرت في إنتاجه، لعل تلك القراءة وذلك السماع قد أوحيا لهم بتقديم تنظيرات لم تهضم معطيات تلك المدرسة، وتضم كثيراً من الفوضى والاضطراب والتفكك.

على أن تاريخ هذه المدرسة التي يمكن أن يتشبث بالانتساب إليها بعض مشعوذي المنهج الفني المزعوم ضارب في القدم، فهو يعود إلى عام 1911م، ولم يعد الدرس النقدي المعاصر يرضى بعد أن انفجرت المناهج النقدية النصية بمثل هذا المنهج، ذلك أن المنهج الشكلاني فني، والمنهج الأسلوبي فني أيضاً، والمنهج الإنشائي (الشعرية) فني كذلك، وقل مثل ذلك عن المنهج التفكيكي والمنهج السيميائي والمنهج التداولي، فكل تلك المناهج غير منفكة عن الفنية، فأيها سيطبق متبني المنهج الفني؟!.. لا أظن أنه سيطبقها جميعاً.. لأن بعضها يطرد بعضاً من جهة، ومن جهة أخرى لم نر أي أثر نقدي لتلك المناهج على تطبيقات المروجين لهذا المنهج.

إن ما يتبناه أولئك لا يخرج عما تحدث عنه سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي: أصوله ومناهجه)، هذا الكتاب الذي يفتقد إلى المنهجية في كثير من أفكاره، فالمنهج الفني - حسب فهم سيد قطب - قد التهم النقد التراثي فشمل بثوبه الفضفاض نقد ابن قتيبة وقدامة بن جعفر والآمدي وعبد القاهر وابن رشيق، ثم استوى على سوقه لديه من خلال دخول مجموعة من المناهج المتطاحنة فيه، ومع ذلك يقول بكل ثقة:» كل هذه نماذج من النقد على المنهج داخلة فيه، وقد تضم إليه طرفاً من مناهج النقد الأخرى التاريخية والنفسية، لأن هذه المناهج ليست منعزلة تمام الانعزال... لأن عملية النقد الكاملة قد تستدعي استخدام المناهج جميعاً في وقت واحد» ص 146، شيء لا يصدق! كيف يتصور أي عقل نقدي أن كل تلك المناهج المتنافرة يمكن أن تلتحم في لحظة تجلٍ واحدة وتنتج درساً علمياً؟!.. لكن إذا علمت بأنه وضع في النهاية ما سماه المنهج المتكامل أيقنت أن الرجل بعيد كل البعد عن النقد العلمي المؤسس.

ويأتي علي عبد الحليم محمود - الذي قُرِّر كتابه (النصوص الأدبية: دراستها ونقدها) ردحاً من الزمن على طلبة بعض الأقسام الأدبية ولا يزال - ليعيد كلام سيد قطب، ويسهم في حراسة هذا النسق المغلوط، وكثيراً ما يخلط الديني بالتحليل النقدي فهو - على سبيل المثال - يعلق على منهج لانسون بعبارات مبتذلة متهالكة، حيث يقول: «وهؤلاء المستشرقون دسوا السم في العسل في كثير مما كتبوا « ص70، ولا يكفيه المنهج الفني الذي لا يرد يد لامس ليقول عن منهجه الذي سيختاره في تحليل النصوص بأنه: « منهج لفقتُه من عدة مناهج، ووفقت فيه بين كثير من الخطوات التي يجب أن تدرس في النص الأدبي «ص74، ويكفي أن تسمع كلمة (لفقتُه) وكلمة (يجب) لتأسى على حال التلاميذ الذين اتخذوه معيناً يمتحون منه.

ربما يكون لأولئك القوم البعيدين عن الأجواء النقدية عذرهم في قول ما قالوا، ولكن هل لنا عذر اليوم في السير على الطريق الذي اختطوه؟ لا أظن، ومن هنا فإني أدعو الأقسام الأدبية إلى طي ملف هذا المنهج الملفق وعدم الاستمرار في تضليل الدارسين ولا سيما طلاب الدراسات العليا.

على أني أجد أن هذه الرؤية قد تزيَّت بزي جديد، وظهرت مع مدارس النقد الحديثة بثوب مختلف، فهناك من يصور مناهج النقد الحديث وكأنها (تابو) ينبغي الحذر منه، ويعالج تلك الموضوعات وفق سياجات (دوغماتية) يصنعها.

وربما تسلح بعض النقاد بتلك المفاهيم والآليات الحديثة، لكنه استمر يرمقها بنظرة ريبة، بدا ذلك لي من خلال قراءة كتاب مقرر على طلاب الدراسات العليا، عنوانه: (مناهج النقد الأدبي الحديث: رؤية إسلامية).. ولا أدري ما علاقة الرؤية الإسلامية بمناهج إحصائية رياضية يُقارَب النص من خلالها؟! لو كان الحديث عن المذاهب الأدبية لكان الأمر معقولا.. ذلك أنها مرتبطة بالإبداع وغير منفصلة عنه، ولذلك صح أن يكون المذهب الوجودي - على سبيل المثال - مذهباً أدبياً وعقدياً في آن، أما تلك المناهج فلا تحتمل هذه الرؤية المقحمة، أتمنى أن يراجع صاحب هذا الكتاب عنوانه السالف، ليقدم عملاً علمياً رصيناً بعيداً عن استدرار العواطف، فالعلم يعلو ولا يُعلى عليه.

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة