ينشغل البشر عادة بالأسئلة الشائكة، وبالقضايا الكبرى، ضاربين الصفح عن المعارف التي قرّت في أذهانهم نتيجة التعميم والتوارث، تلك التي لا تنبّههم عليها سوى صدفة يقودها حوار أو بحث، أو فكرة تلمع في أذهانهم في لحظة تجلّ معرفيّ، وذلك ما يحدث معي أثناء عمليّة القراءة، أو أثناء حوار مع طلبتي، أو نتيجة سؤال من قبل أحدهم، فيحملني الأمر على البحث والتمحيص وإعادة مساءلة الكثير ممّا رسخ.
منذ أيام بدأت أقرأ لطفلتي (زين)، ذات السنوات الست، قصص الأنبياء، وبالطبع كانت القصّة الأولى هي قصّة آدم عليه السلام، وحينما وصلنا إلى موضوع الثمرة المحرّمة، ذكرت أنّها، وكما هو شائع، التفّاحة، وأنا موقنة أنّنا لم نعرف تحديدًا لتلك الثمرة، إذ جاء الخلط بين الشجرة المحرّمة والتفاحة في العصور الوسطى، بسبب من التقارب بين الكلمة اللاتينية «malum» التي تعني (الشر)، والكلمة اللاتينية «malus» التي تعني (تفاحة). وبغض النظر عن كيفية نشوء هذه الفكرة، فإنه ليس من أساس كتابي تستند عليه هذه الفكرة، لكنّ سؤال (زين) كان الآتي: ما هو لون التفّاحة؟!
هممت أن أقول: أحمر، لكنّني توقّفت عن الإجابة، فمن أخبر أنّها حمراء!
قلت لطفلتي: ربّما هي حمراء، أو صفراء، أو خضراء، فقالت: أو زرقاء، مثل التفّاحة التي رأيناها أمس عند بائع الورد!
وكنّا قد رأينا، حقيقة، غصنًا اصطناعيًّا عليه تفّاحات زرقاء مضيئة، قلت: ليس ثمّة تفّاح أزرق! فقالت: ربّما كان، ولم يبق!
في اليوم التالي، سألت طلبتي في مادّة الفكر الجمالي القديم السؤال ذاته: ما لون التفّاحة؟
معظمهم قال: حمراء، وقلّة: صمتوا عن الإجابة، وكان السؤال التالي: لماذا تتوقّعون أنّها حمراء، فأجاب بعضهم: لأنَّ الأحمر أكثر جاذبيّة، فكان السؤال الذي تولّد: من حدّد أن الأحمر أكثر جاذبيّة، فما تلك سوى فكرة موروثة؟
فقال بعضهم هو ألذّ، فعارضهم آخرون: بل الأصفر ألذّ، والأحمر غالبًا ما يكون هشًّا...لا شكّ في أن لون التفّاحة ليس قضيّة خطيرة، بل ليس من الأهمية بمكان أن تكون الثمرة المحرّمة تفّاحة أو كمثرى مثلاً، لكنّ المهمّ في الأمر أنّنا حاولنا الحفر في تاريخ نمط محدّد وقارّ في أذهاننا، إذ عدنا إلى تفاسير القرآن الكريم، وإلى العهد القديم، فلم نجد تفّاحًا أحمر أو أصفر!
ذكّرني ذلك السؤال بموضوعة طالما توقّفت عندها وأستاذي الجليل الدكتور فؤاد المرعي، الذي كان يصرّ على أن لون شعر حوّاء أسود، وأنّه طويل ومسترسل، وأنّها بيضاء ممتلئة البدن، وأنّها تشبهنا نحن نساء الشرق الأوسط، فكنت أقول: لا بد من أن الأوروبيين يرونها وفاقًا لمعاييرهم الجماليّة، وكذلك الأفارقة أو اللاتينيّون، فما المانع من أن تكون شقراء، فيقول: الأسود أصل، فأردّ: والأبيض أصل... لا نجد في المصادر القديمة ما يشير إلى صفات حوّاء الشكليّة، كلّ ما يمكن أن نجدة يشير إلى صفات عامّة تؤكّد على أنّها جميلة جدًّا، وأنّ جمال البشر صدر عنها كما يصدر المعلول عن العلّة، وأنّها ساذجة بالنسبة لآدم عليه السلام، ذلك أن الأفعى اقتربت منها لإغوائها، ولم تقترب منه، فهو أخبر منها، لأسبقيّته في الوجود، أي في الخبرة، ولتعليم الله تعالى إيّاه من علمه، ثمّ أنّها (حوّاء) صدرت عنه فهو علّة في هذا وهي معلول، والصفة الثالثة التي لا تنازع عليها هي أنّها جدّ أموميّة، بل هي أمّ البشريّة، أمّا شعرها فكلّ يتخيّله وفاقًا لنموذجه الجماليّ، أسود أو أشقر أو أحمر، مسترسلاً، أو مجعّدًا...
حين أنهينا قراءة قصّة آدم وحوّاء، أشارت إلى طفلتي وهي نصف نائمة، بأنّ التفّاحة الزرقاء سرّ بيني وبينها، فوافقت وأنا أضحك في نفسي من خطورة هذا السرّ، لكنّني في نهاية الأمر وجدت أنّها تعلّمني درسًا، فأهمية السرّ بالنسبة إليها لا تتأتّى من خطورته، بل من سريّته، أي من كونه دفينًا، ومحاطًا بالحرص.
لو عرفت طفلتي الآن أن سرّها قد هتك لآلاف القرّاء، ستغضب وستحزن، لكنّها ستعرف، حينما ستصل إلى مرحلة متقدّمة في الوعي والتجربة، أن الكاتب لا يمكنه توفير فكرة من مثل هذه الأفكار البسيطة والعميقة، والمشكلة التي تبقى أمامي الآن هي أنّني ساحتاج قبل قراءة كلّ قصّة إلى بحث معرفيّ!
القصّة التالية هي قصّة نوح عليه السلام، راجعت القصّة مرارًا، ولم استطع حتّى اللحظة التكهّن بالسؤال الذي يمكن أن توجّهه (زين) إليّ!
حلب