ثمة خاصية ليس بمكنة المعرفة بقالبها النظري إلا التوفر على ملامحها إبان البحث عن مقاعد في الصفوف الأمامية الأولى في التشكُّل الجغرافي للموضوعية.. المعرفة النظرية كما يقرر القانون المعرفي العام الذي تسير بموجبه لا تكتسب القيمة المجسدة لذاتيتها إلا عبر الدليل، وبما أن الدال النظري ليس معروف الصدق لذاته - أي أنه بحاجة ذاتية للدليل - وبما أن الحاجة ماسة إلى ما يمنح المصداقية في هذا السياق فإنه لا مناص من مقدمات ضرورية - يقتضيها البُعد الفطري - معلومة الصدق لذاتها بحسبها المؤسس الأول لحركة الدلالة، الدليل هنا لا بد أن يكون ضرورياً، أي جِبِلياً، لا نظرياً، لماذا؟؛ لأن النظري لا تكون دلالته ثابتة لذاته، بل لارتكازه على دلالة ضرورية من خلالها ينبجس النور الكفيل بإماطة اللثام عن سؤال الحقيقة.
استناد النظري إلى نظري نظيرٍ له هو استناد إلى ما يفتقر إلى الدلالة وهذا سيقود في النهاية إلى التسلسل وهو أمر تحكم شريعة العقل بنفيه هذا من جهة، ومن جهة أخرى سيفضي بنا إلى عدم اليقين في المعرفة مطلقاً، لماذا؟؛ لأنها تتكئ في إثبات مصداقيتها إلى ما لا بد للعلم بمصداقيته من دال، وحينئذ يلزم (الدوْر) لأن الاستدلال هنا اعتمد على ما يحتاج إلى استدلال وهذا وقوع في فخ الدور المنطقي الممتنع عقلاً إذ يستحيل من الناحية العقلية أن يتوقف الشيء على ما يتوقف هو عليه لأنه عندئذ - أي عند تكرر حدوث الدور - سنجد ذواتنا قبالة طوفان يستعصي على الضبط من تلك المقدمات ذات الطابع النظري.
وفي هذا الصدد يقرر صاحب الدرء أن: «البرهان الذي ينال النظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية لزم الدور القبلي أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء.. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء.. فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي إليها» (درء التعارض 3/309)
إن المقدمات الضرورية للاستدلال العقلي والتي تُشكِّل الأساس المؤسس لتماسك حركة الاستدلال وتَموضع موضوعيتها تؤب إلى بعدين مركزيين:
أولاً: عدم التناقض بقسميه: الوسط الممنوع المتمثل في عدم التموقع المعي للنقيضين، والثالث المرفوع المتمثل في عدم الارتفاع المعي لهما.. عدم التناقض ينطوي أيضاً على مبدأ الذاتية وهو مبدأ عقلي ضروري والمُراد به أن (أ هي أ) وأن (الماء هو الماء) واستحالة أن (ب ليست هي ب).. كل شيء هو هو، أي كل شيء هو أناه، أي ليس غير ذاته، بل هو هي بهوية وخصائص مستقلة.. مبدأ الذاتية ليس مجرد تكرار الموضوع في المحمول بقدر ما هو حكم عقلي ضروري ينطوي على النفي والإثبات.
ثانياً: العلية، أي أن ليس ثمة معلول يتوفر على وجود ذاتي، وإلالزم ألا يكون ثمة عدمٌ سابق لانوجاده، إذاً فلا بد أن يكون ثمة علة يستدل عليها من خلاله.. ولا يتصور وجود أي ضرب من الانفصال بينهما.. بل ثمة نسيج متلاحم بجلاء.
إذن فالمعرفة النظرية تستقي يقينيتها من حيث قفولها رجوعاً إلى الأدوات البديهية الضرورية بحسبها مقدمات مفعمة بالغنى الذاتي فهي مستغنية عن الدليل، بل يتعذر الاستدلال لها، لماذا؟؛ لأنها هي جوهر الاستدلال وأصله البالغ المحورية والذي يُشكّل مصدراً تنبثق عنه الدوال.
أيضا تلك المقدمات لا يتوجه إليها الشك، ناهيك عن تصور نقيضها بحال من الأحوال باعتبارها مقتضى الجبلة العقلية التي هي مقتضى الصبغة التي أوجد الخلق على ضوئها.. ولو كان الارتياب يتسلل إلى تلك المقدمات لما ساغ نعتها بالضرورية، فضلاً عن أن هذا مناقض لمبدأ عدم التناقض.. يقول أبو العباس:
«فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه ولا يقاوم نفسه في دفعها تبين أنها ضرورية وأن الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها» (الدرء6/106) إذن فهي تفرض ذاتها على نحو يتعذر الانعتاق منها، وليس بالوسع مدافعتها، فالعقل يسلم بها من غير حاجة إلى البرهنة عليها وإنما من مجرد تصورها فهي ضرورية، أي أنها تلزم «نفس العبد لزوماً لا يمكن معه دفعه عن نفسه» (الدرء6/106).
بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن تلك المبادئ الأولية أنها متحققة بالقوة لا بالفعل - ونفي وجودها بالفعل لا يلزم منه نفي وجودها بالقوة - إذ كونها جبلية لا يلزم منها أن تكون كامنة في أغوار الأنا وأنها معلومة للمرء فور ولادته.. وإنما يعني أن البعد الفطري يقتضيها وأن الغريزة الذهنية لا تتجشم أدنى عناء في إدراكها، بل تقطع بوجوب تَجسدها واستحالتها من وجود بالقوة الى وجود بالفعل متى ما ظلت الموانع منتفية والشروط متوافرة.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة