قد نجد في تراثنا مبالغة في إضفاء صفة الحكمة أو البلاغة على استعمال لغوي دون غيره، ولعل من أوضح أمثلة ذلك توقف بعضهم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}(96-هود)، قال الزمخشري في معرض تفسير رفع (الحمد) «والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: {قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ}، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه» (تفسير الكشاف 1: 9). وبالرفع تكون الجملة اسمية وبالنصب فعلية، ومسألة دعوى الثبات والتجدد لا تسلم للنحويين انطلاقًا من مفهوم الاسمية والفعلية عندهم. أيمكن زعم التجدد في (انطلق زيد) والثبات في (زيد انطلق)؟ كلا؛ فالتجدد فيهما معاً، بل أين التجدد؟ أفي حدث منقطع في (انطلق زيد أمس)؟ أم في حدث مستمر في (زيد منطلق اليوم)؟ وهذا الشعراوي يبعد النجعة بتحويل الأمر إلى قضية إيمانية غافلاً عن مناقضته للسياق القولي والحالي، قال: «وسبحانه حين يُورِد كلمة في القرآن بموقعها البياني الإعرابي؛ فهي تُؤدِّي المعنى الذي أراده سبحانه. والمَثَل هو كلمة «سلام»؛ فضيف إبراهيم من الملائكة: {قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ...} (هود : 69) وكان القياس يقتضي أن يقول هو «سلاماً»، ولكنها قضية إيمانية، لذلك قال: {سَلاَمٌ ...}(هود : 69)، فالسلام هنا لم يَأْتِ منصوباً، بل جاء مرفوعاً؛ لأن السلام للملائكة أمرٌ ثابت لهم، وبذلك حَيَّاهم إبراهيم بتحية هي أحسن من التحية التي حَيَّوه بها. فنحن نُسلِّم سلاماً؛ وهو يعني أن نتمنى حدوث الفعل، ولكن إبراهيم عليه السلام فَطِنَ إلى أن السلام أمرٌ ثابت لهم». (تفسير الشعراوي،1: 4578)، وغاب عن الشعراوي أنّ إبراهيم عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة؛ إذ سارع إلى تقديم الطعام إليهم وخاف منهم لامتناعهم عن الأكل، بل صارحهم بذلك {قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ}(52-الحجر)، غير أنهم طمأنوه بقولهم: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}(هود: 69). وفي مقابل هذه المبالغات نجد المعالجة الموضوعية للغة وإمكاناتها التعبيرية المختلفة، ونمثل لهذا بما ورد عند الفراء، معاني القرآن للفراء (1: 40)، «وقوله: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ»، فأما السلام (فقول يقال)، فنُصب لوقوع الفعل عليه، كأنّك قلت: قلت كلاماً. وأما قوله: «قالَ سَلامٌ» فإنه جاء فيه نحن «سَلامٌ» وأنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ». وبعض المفسرين يقول: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعاً كلّه أو نصباً كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين: إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه «عليكم» رفعته... وإن شئت رفعتهما معاً، وإن شئت نصبتهما جميعاً. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلام: سلام، على معنى قالوا السلام عليكم، فردّ عليهم الآخرون. والنصب يجوز فى إحدى القراءتين «قالوا سلاماً قال سلاماً». فالقضية إذن إمكانات لغوية وليس من تفاضل ظاهر بينهما، ودليل ذلك أن قراءة ابن أبي عبلة جاءت بالنصب (معجم القراءات، 4: 96)، ولو كان للرفع أفضلية لما جاء النصب أيضاً في قوله تعالى: {إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا}(26-الواقعة).
الرياض