قبل أيام نشرت (الجزيرة الثقافية) دراسة مطولة للدكتور سلطان القحطاني عن إحدى السرقات العلمية، وكانت مثار الحديث في الساحة الثقافية وقد ذكرني ذلك بمساحة من الحزن لأنني عشت مثل هذه الواقعة التي كنت أظن أنها انتهت واليوم أجد نفسي متألماً ومتحسراً للعودة إلى موضوع يزعج كل مثقف ومتعلم لأن باب السرقات العلمية لا يفتأ يُفتح على مصاريع كثيرة، وكنت ظننت أنه سيوصد إلى الأبد!!
اليوم نحن مع أستاذ جامعي يعلم الناس وطلاب العلم - من خلال كتاب له - كيف تكون المنهجية العلمية في الأبحاث التاريخية، وكيف تكون الأمانة العلمية في مجال البحوث والدراسات، وكيف يتفاعل الباحثون والدارسون مع قضايا العلم والتاريخ؟!
وما إن تبدأ في ممارسة النقد الموضوعي حتى تكتشف أنك أمام سارق، وغير أمين!! بل تكتشف أنك أمام مصيبة عظمى (أستاذ جامعي يسطو على جهد أستاذ آخر - كتاب كامل - وينقله حرفياً) ويحثو في وجه الأمانة العلمية كل التراب عندما يضع الكتاب المسروق أحد مراجعه ومصادره!! فأي علم وأي أمانة تتوخى من مثل هذا المؤلف - السارق!!
دراسة الحالة
أمام ناظري - بكل أسف - كتاب بعنوان (التاريخ ومنهج البحث التاريخي) لمؤلفه الدكتور قاسم يزبك، طبع في بيروت عام 1990م ونشرته دار الفكر اللبناني، شرفت به - وللأسف أيضاً - في مكتبتي المتواضعة منذ عام 1992م عندما اشتريته من معرض الكتاب الدولي بالقاهرة في خريف ذلك العام، وبقدر استفادتي منه طوال هذه الفترة التي تقترب من إحدى عشرة سنة، إلا أنني لم أخضعه للنقد والمساءلة لأنني اعتبرته خير معلم للأمانة العلمية!! ولكني اليوم، وقد ألجأتني الظروف لمراجعة بعض مسائل المنهجيات البحثية في التاريخ إلى الكتاب وغيره، فقد أجريت أدواتي النقدية، وحاسة الشك الموصلة إلى اليقين فوقفت على هذا الاكتشاف المزعج والمؤلم في نفسي الآن!!
ومن حسن الحظ، أن مكتبتي المتواضعة تحمل في طياتها كتباً كثيرة في مناهج البحث التاريخي، ولكن أهمها على الإطلاق كتاب الدكتور حسن عثمان: منهج البحث التاريخي، الصادر عام 1943م في طبعته الأولى، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1963م، والذي بين أيدينا الآن الطبعة الرابعة عن دار المعارف بمصر دون تاريخ نشر.
ومن خلال مطالعتي في الكتاب الأول المذكور سلفاً لاحظت بعض التشابه في عناوين الفصول فبدأ الشك يطغى على الحاسة النقدية، ومن ثم بدأت عملية التيقن والتأكد حتى وصلت إلى مرحلة اليقين الكامل بأن وراء الأكمة ما وراءها وأن كتاب الدكتور حسن عثمان - بحكم أنه الأول طباعة ونشراً - قد تعرض لسرقة علمية من الدكتور قاسم يزبك، سرقة شملت كل الفصول وكل الصفحات، وكل العناوين الرئيسة، وأن هناك شبه اختلاف بسيط جداً ولا يذكر مما يؤكد أننا أمام سرقة علمية في وضح النهار!!
ومما يؤسف حتماً، أنه حتى الآن لم يفطن إلى هذه السرقة العلمية كثير من الباحثين والدارسين مع تقدم الزمن ومرور الأيام على طبع الكتاب المنتحل.
آفاق النقل الحرفي وشواهد السرقة:
أولاً: منذ الصفحة 43 في الكتاب (أ) وهو ما نرمز به إلى الكتاب الصورة/ الكتاب السارق/ كتاب الدكتور قاسم يزبك (التاريخ ومنهج البحث التاريخي)، أما الكتاب المسروق منه فنرمز له (ب)، نجد بدايات النقل الحرفي فالكتاب (ب)/ كتاب الدكتور حسن عثمان (منهج البحث التاريخي)، يتحدث في (المقدمة) عن معنى التاريخ وعلميته وأهميته وصفلت المؤرخ وذلك عبر (13 صفحة)(1)، بينما نجد الكتاب (أ) يتحدث عن (بدء ظهور التاريخ) ومن هنا يبدأ النقل الحرفي لكثير من أجزاء المقدمة مضيفاً إليها عناوين جانبية كمثل (صفات المؤرخ) و(تحديد قيمة التاريخ المكتوب) ويغير (أولاً، ثانياً، ثالثاً) إلى (أ، ب، ج) مختصراً في بعض الأجزاء(2).
ثانيا: وإذا وصلنا إلى الفصل الأول في الكتاب (ب) تحت عنوان (العلوم المساعدة) وجدناه عند صاحب الكتاب السارق كتاب (أ) بنفس العنوان مع إضافة بسيطة على النحو التالي: (العلوم المساعدة لدراسة التاريخ) ثم يبدأ النقل الحرفي للأسطر الثلاثة الأولى ثم يقفز مجموعة من الأسطر ليعود إلى النقل الحرفي في نهاية الصفحة (25 من الكتاب (ب) ثم يبدأ في وضع عناوين فرعية لتلك العلوم المساعدة بينما الكتاب الأصل (ب) لا يعنون هذه العلوم بل يدمجها في المشهد (3).
ثالثاً: ومن الصفحة 78 يدخل بنا المؤلف (السارق في كتابه (أ)) إلى القسم الثاني من كتابه بعنوان (منهجية البحث التاريخي) يدخل منه إلى عنوان فرعي بعنوان (اختيار موضوع البحث) ونجد ذلك نفس العنوان عند صاحب الكتاب الأصل (ب) ثم يبدأ النقل الحرفي لجميع صفحات هذا الفصل مع زيادة عناوين جانبية يجتهد فيها المؤلف/ الناقل كتاب (أ).
الغريب في الأمر أن بدايات المقاطع والأجزاء هي هي نصاً وحرفا وحتى نهايتها وفواصلها ونقاطها، ولعل الاختلاف الوحيد أن الكتاب ((ب) الأصل)يورد هامشاً ومراجعاً في أسفل الصفحة بينما صاحب الكتاب (أ) يتجاوز هذه المسألة ولا يسرقها!!
ويختم (السارق) هذا الفصل باجتزاء عبارة ختامية ينقلها حرفاً حرفاً من المقطع الأخير في الكتاب (ب) ولكنه يكتفي بسطرين متجاوزاً عن الأسطر الباقية في الكتاب الأصل(4).
رابعاً: وإذا حاولنا تتبع كل ما ورد فسنجد أنفسنا أمام نسخ وتصوير لمجمل الكتاب (ب) في فصوله وموضوعاته حرفاً حرفاً وليس له من جهد إلا بعض العناوين الفرعية، والاختصارات المخلة، وما بقي له إلا النقل والتصوير والسرقة العلمية!!
خامساً: ولعله من باب الأمانة العلمية والمزيفة، أو الغش والمخادعة، أو الاستهزاء بجمهرة القراء، أن يشير في قائمة لا مراجع، إلى الكتاب (ب)، مع إننا لا نجد في كل الكتاب أي إشارة مرجعية في الهوامش أو الاقتباس!! مما يدل على السرقة حقيقة وواقعاً.
الخاتمة
وأخيراً - بكل ألم وحسرة وأسف - أتساءل مع نفسي ومع القراء الأكارم: كيف تثق في أستاذ يعلمك مناهج البحث وأساليبه- ومنها الأمانة العلمية- وهو لا يلتزم بتلك المنهجية؟!
وكيف نأخذ العلم والمعرفة ممن لا يقدر للعلم والعلماء مكانة ولا جهوداً؟!
سؤالان حائران يشغلان تفكيري وأنا أطالع جهداً مسروقاً ينسبه الدكتور قاسم يزبك إلى نفسه، متطلعاً في الآن نفسه إلى جيل من طلاب العلم والمعرفة في جامعاتنا وكلياتنا والذين يمارسون القراءة -عادة واطلاعاً - أن يمارسوا مع قراءتهم - أسلوب القراءة الناقدة، القراءة الواعية، القراءة المدققة حتى نكتشف مثل هذه المسائل التي تخرج عن جانب العلم والمعرفة والأدب.
بقي أن أقول إن إرفاق نموذج من الكتابين يعطي دليلاً قوياً على مدى ما ذهبنا إليه رغبة في إهداء الحق وبيان الخطأ، وتبصير القراء بما يحصل في ساحات العلم والمعرفة من خيانات في حق العلم وأهله(5).
والله المستعان...
* * *
الهوامش والإحالات
(1) انظر الكتاب (ب) ص ص11-23.
(2) انظر الصورة المرفقة للصفحات (43-49، الكتاب (أ). ,الصفحات 12-23 للكتاب (ب).
(3) انظر الصفحات 51-75 من الكتاب (أ) وقارن مع الصفحات 26-52 من الكتاب (ب).
(4) انظر ص85 من الكتاب (أ) وقارن مع الصفحة 66 من الكتاب (ب9.
(5) انظر الصور المرفقة.
* عضو مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي بجدة