هذا المقال له قصة عجيبة، فقد كتبته عشرات المرات وعدّلت فيه مئات التعديلات وكتبته بالقلم الرصاص ثم كتبته بقلم الحبر، ثم طبعته بالآلة الكاتبة التي اخترعها الألماني جوتنبرغ عام 1440م ولا زالت تستخدم (على الأقل عندي أنا)، وأخيراً طبعته على جهاز حاسب وأرسلته ليتم نشرة، لكن ظروف النشر لم تسمح لهذا المقال أن يترجّل من على ظهر المسودة الأولى، مرة لظروف النشر ومرة أخرى لظروف الإعلان ومرة ثالثة لفقدان الرابط الخاص بالحاسب.
هكذا كان الأمر وأنا، ماراثون المقال، أمنّي نفسي بأن يصل هذا النداء إلى معاليه، وأسعد برد جميل منه، كما عوّدنا - يرحمه الله - من الحرص على كل ما يكتب في الصحافة والتفاعل الجميل معها، بلغته الراقية وأسلوبه المحبّب، الذي جعلني والكثير مثلي، لم نتفاجأ من هذا الكم الكبير من المشاعر الجميلة والفيّاضة تجاهه سواء من أصدقائه ومعارفه ومحبيه أو ممن اختلف مع الدكتور، الذي لم يكن يحمل قلبه تجاه الآخرين إلاّ كلّ خير ورغبه في النصح والإخلاص، نحسبه كذلك والله حسيبه.
والآن إليكم المقال كما كتب أول مرة، لم أبدل فيه ولم أغيّر لأنني أعتقد أنّ هناك من يسمعني كما كان سيسمعني معالي الدكتور غازي القصيبي في حياته رحمة الله عليه.
بين العامين (الأملحين) 1990-1991 م كتب معالي الدكتور غازي القصيبي مجموعة مقالات بعناوين متعدّدة بدأها بعنوان قبل هبوب العاصفة وثناها ب(في عين العاصفة)، وبعد ذلك جاء عنوان اسمه (بعد العاصفة)، وكانت هذه المقالات متنوّعة بعضها يفقع قلبك من الضحك وأخرى تفقع القلب من الغم، وثالثة لا تستطيع بعد قراءتها أن تحدّد وضعك النفسي، كل ما تشعر به أنك بحاجة إلى حائط تستند عليه وتبدأ موشحاً طويلاً عريضاً تبدأ فيه بسب نفسك ثم من تعول وتجبرهم على النوم في ذلك الجو المشحون.
أنا (ولا فخر) أحد ضحايا هذه المقالات، حيث إنّ مشكلتي لم تنته عندما وضع الكاتب قلمه وقفل باب العاصفة، بل إنها استمرت إلى يومنا هذا وإلى هذه اللحظة التي أكتب لكم لتتوسطوا لي لدى معاليه لينقذني من براثن هذه المقالات التي سأعلن لكم (وأجري على الله) القصة الكاملة لها وأنتم تحكمون.
فقد حدث يا سادة يا كرام في سالف العصر والأوان، أن قمت أنا الموقّع أدناه (من حر مالي) وبشكل يومي ومع سبق الإصرار والترصُّد، بشراء كل أعداد الصحيفة التي نشرت تلك المقالات العاصفة، وقرأتها مرة وتنين وتلاتة (على رأي العبد لله محمود السعدني رحمة الله عليه)، وبعد أن أنفض المولد وانتهت حرب تحرير الكويت، قمت بارتكاب عمل ظننت (وأكذب الحديث الظن)، ظننت أنه مؤقت وهو أنني احتفظت بكل الأعداد لصحف حية وأخرى ميتة تحتوي على المقالات، سبب المشكلة.
وقد كان هدفي من ذلك أنني في يوم، في شهر، في سنه، أقوم بإعدادها للطبع ضمن كتيب فهي بلا شك تؤرّخ لمرحلة مهمة وتقول أشياء كثيرة. وقمت فعلاً (من وجهة نظري على الأقل) بإرسال بعض الرسائل عبر بعض الكتابات (عل) معالي الدكتور يعرف من غير ما أقول له، أن عندي هذا الكم (أو هذا الهم بالأصح) ويحن ويتلطّف فيجيزني بإصدارها. لكن وآآآآه من لكن..... لكن لم يصل صوتي لمعاليه لأنه لم يكن هناك صوت أصلاً، ولذلك فقد كبست على الجرح ملحاً (على رأي الفنان الكبير غوار الطوشه)، ووضعت هذه الصحف في حافظات (وليست حاويات) كرتونية، صمّمتها خصيصاً لهذا الغرض، وأخذت أنقلها معي كلما انتقلت من مسكن إلى آخر، وقد نصحني والدي رحمة الله عليه (بعد أن رأى حالي) بأن أتخلّص من هذا الحمل الثقيل، خصوصاً بعد أن رآني أنام بغرفة غير مكيفة الهواء، لأن الغرفة التي من المفترض أن أنام بها تركتها لحافظة المقالات (ألم أقل لكم إنها حافظة) خوفاً عليها من الحر الذي قيل لي أنه (قد) يتلف الورق، كما نصحني والدي رحمة الله عليه رأفةً بي أن أترك التفكير في هذا المشروع، وأن التفت إلى نفسي فأنام، على الأقل في هذا الحر، في الغرفة المكيفة دون أن أتقلّب على جمر النار.
لكنني في اللحظة التي أردت أن أنفذ فيها وصية والدي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، أقول في تلك اللحظة، رأيت معالي الدكتور ينظر إلي بعتب ويتهمني بقلة الوفاء لهذه المقالات، ولذلك رفضت الاستماع إلى النصيحة الغالية واستمررت في غيي القديم.
الآن وبعد مضي كل هذه الفترة أتوجّه لكم بهذا النداء راجياً أن تتكرّموا بتوصيل صوتي لمعالي الدكتور غازي القصيبي بأن يسمح لي بطباعة هذه المقالات (وعلى نفقته الخاصة «هذه للمساومة طبعاً»، أو نفقتي لا فرق بعد كل هذا العناء الذي لحق بي جراءها)، أو أن ينتظرني في صبيحة أحد الأيام التي سيطفح بها عندي الكيل فيجدني مع كامل الصحف على باب الوزارة لأسلّمه (مع عودته الميمونة بالسلامة والعافية إن شاء الله) هذه العهدة ومن أنذر فقد أعذر. وسامحونا.
هذا هو المقال دفعته للنشر الآن مع علمي أنني لن أحضر كامل الصحف إلى باب الوزارة ولا إلى باب البيت، ولكن لأقول كلمة في حق الفقيد الدكتور غازي القصيبي ولأطلع القارئ على هذا النموذج من محبة الناس التي وهبها الله لهذا الرجل الوفي لوطنه وأهله، ولأنني أدرك أنه لو قرأ هذا المقال لتبسّم مما فيه، ومع أنّ هذا المقال رثائي حزين إلاّ أنني أطلب منكم أن تتبسموا من أجل غازي القصيبي وأن تؤمنوا على دعائي بأن يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أبناءه وزوجته الصبر والاحتساب. وسامحونا مرة ثانية.
- الرياض
abs456@hotmail.com