Culture Magazine Thursday  26/03/2009 G Issue 276
سرد
الخميس 29 ,ربيع الاول 1430   العدد  276
مدائن
الفيتوري.. أغانٍ إفريقية بحزن أسمر
إعداد - عبدالحفيظ الشمري

 

لم ينحن الشاعر رامزاً للكبرياء، ولم يرعو عند من نعتوه بالمارق!! هكذا ظل الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري بين برزخي القبول والرفض، فلم يشأ الشاعر الذي أُفعم الشعر كجنون أسطوري أن يقبل التدجين والمهادنة، فما كان من مديري الوطن إلا أن يمازجوا بين مساومة ورفض، في الأولى يتخلى الشاعر الفيتوري عن شعر غاضب وصادق، أو رفض يعيده إلى حظيرة المهادنة والتصالح مع الواقع الذليل.

المدائن كانت هي مهاوي الرجاء لديه إلا أن الهوى كان إفريقياً خالصاً، فلم يلقِ بعصي الترحال بين العواصم العربية في شمال القارة السمراء، أضف إلى ذلك أن الشاعر محمد الفيتوري كان شديد التعلّق بوطنه السودان ليفيض حباً ووفاء للعرب في كل مكان.

فالمنابت الأولى للشاعر الفيتوري هي مدينة (الجنينه) الحدودية حيث تلتقي في مثلث (السودان، تشاد، ليبيا)؛ فكان الفتى في صباه توّاقاً إلى وطن أرحب، فلم تدم الإقامة في العاصمة (الخرطوم) إذ ما لبث إلا أن يشد الرحال في تغريبة جديدة نحو مناف جديدة، لكنه وطوال سني رحيله لم ينس الوطن، ليزداد حنينه كلما اقترب إليه:

(لو لحظة من وسني

تغسل عني حزني

تحملني

ترجعني

إلى عيون وطني)

فالعودة هي الحلم، لكن الواقع قد يكون أقسى، وجراحه أنكى، فكيف إن كان هذا الحزن يسكن قلب ووجدان شاعر كمحمد الفيتوري الذي ذاب شوقاً، وهام وجداً على محبوبته (الجنينة) في أقاصي غرب السودان في دارفور تحديداً.

ويعد الشاعر الفيتوري من أكثر الشعراء تمسكاً بالأرض، ومن أشدهم وفاء للمنابت الأولى، فلم تخلُ أي قصيدة من قصائده من ذلك الوجد اللاعج والحزن الكامل على مآل الأحلام إلى مجرد وهم عابر في زمن لم يعد للأحلام الوادعة أي..

المدينة تسكن أدنى أوجاع الشاعر الفيتوري إلا أنه مسكون بتلك المدن التي تذكره بالوطن الذي لم يعد له الحق في البقاء فيه على مدى عقود حتى عاد في نهاية المطاف بعد أن دوّن العديد من القصائد المحملة على عشقه الأبدي للبلاد السمراء، حتى وإن تخلى عنه الوطن فإنه لم يتخل عن وطنه أبداً؛ إذ ظل وفياً له ولأهله، وهذه حالة المحب الصادق الذي لا يقابل الوطن بسوء حتى وإن قسا عليه أهل الوطن.

ظل الشاعر رغم تنقلاته وترحاله بين المدن المدججة بالحضارة وفياً للريف وأهله، فحينما هاجر إلى الغرب وتنقل بين باريس وفيينا ولندن لم يتخلَّ عن ولعه بتلك التخوم البسيطة والهادئة.

يعد الشاعر الفيتوري من جيل الرواد في الشعر العربي ولاسيما (التفعيلة) حيث كتب أجمل قصائده من خلال هذا اللون الشعري الجديد، فكان هو الأكثر تأثيراً حينما يحاول أن يكاشف الأشياء حقائقها القوية، فقد توج هذا التوجه الشعري بخروج ديوانه (عاشق من إفريقيا) فهو الذي لم يخرج عن إطار هذا العشق والهوى حتى ذاعت في سائر أرجاء الوطن العربي قصيدته التي برزت كمعزوفة لدرويش متجوّل، فكان لحظة تنويرها المشهد الشعري التالي:

(في حضرة من أهوى

عبثت بي الأشواق

حدقت بلا وجه

ورقصت بلا ساق

وزاحمت براياتي

وطبولي الآفاق

عشقي يغني عشقي

وفنائي استغراق

مملوك لكني.. سلطان العشاق).


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة