هطلت الأمطار وفرح الصغار وخرجوا يتسابقون تحت زخات المطر.. وصراخ الأمهات الحنونات يتعالى وهن يسترجن أطفالهن في الرجوع خوفاً عليهم من البرد والأمطار، كنت لحظتها في الثامنة من عمري وكانت هي تصغرني بسنة على الأرجح.
عندما رأيتها أول مرة.. كنت أركض بأقصى سرعة للحاق بمن سبقني من الأطفال.. وكانت هي تحاول الخروج لترى قطرات المطر وهي تقبل وجه الأرض، رفض أمها وصراخها كان يمنعها.. عندما لمحتها خفت سرعتي دون أدنى تحكم مني ووقفت أمام منزلها أتأملها.. استغربت من نظراتي لها وخافت مما دفعها للدخول وإغلاق الباب دون أن تنظر خلفها.. لم أشعر بنفسي لحظتها ولم أشعر بزخات المطر التي توقفت حتى أن قام أحد الصبية بدفعي من الخلف ممازحاً لي وهو يقول: ما بالك يا غبي أفسدت علينا السباق؟! ضحك وضحكت على أنغام ضحكته، ولا أدري لماذا! رجعت إلى المنزل وصورة الفتاة حيكت في ذهني.
وبعد مضي عشرين يوماً على تلك الحادثة مازالت صورتها مرسومة في ذهني وكأني أراها الآن أمامي! لا تستغرب.. نعم أعجبت بها.. أنا حقاً لا أعرف أين ذهبت؟ أو كيف أصبح شكلها بعد هذه السنين؟ لكن طوال سنوات عمري الماضية ومازالت أراها في كل وجه جميل يعجبني، حتى عند سماعي لأي اسم فتاة جميل أسأل نفسي أيكون هذا أسمها؟!.
أخبرني بسره الغريب كما يقول إبراهيم ثم أسلم نفسه للنوم.. قمت أجول في فناء المنزل وأنا أفكر بأشياء جمة من ضمنها ما سمعته من إبراهيم.. جلست قليلاً أو ربما كثيراً -لا أتذكر- أراقب نجوم السماء، شدني سطوع إحداهن ولا إرادياً صرخت قائلاً إبراهيم وحدتها.. طفلتك الصغيرة إنها تلك النجمة!).
ترددت قليلاً ثم ضحكت كثيراً وأنا أردد (لا قد تكون تلك أو ربما تلك أو..) وبعد شروق الشمس استيقظ إبراهيم أثناء تصفحي للجريدة ألقى التحية ثم جلس يتناول الفطور وبعد أن فرغ من الأكل ناولته الجريدة وبدأ يقرأها وفجأة سقطت من عينه دمعة.. ثم تلتها دمعات! استغربت وتبادر الخوف إلى نفسي، سألته (ما بالك يا إبراهيم؟!) صمت قليلاً ثم قال (قد لا تصدقني) فقلت (بالله عليك أخبرني) فقال (لقد قرأت اسماً في صفحة الوفيات ولا أدري عندما قرأته انقبض قلبي وشعرت بحرج في صدري.. أيكون لأني شعرت بأن هذا الاسم هو للفتاة الصغيرة التي حدثتك عنها بالأمس.. نعم هذا هو اسمها..)، (كيف يا إبراهيم؟!! سألته، فرد قائلاً: لا أدري ولكن الآن أيقنت بأن هذا هو اسمها هدى.. نعم هذا هو اسمها!.. كما أيقنت الآن بأني أحبيتها وبعد ساعات ودعني وسافر إلى قريته... ثم سمعت بعد أيام ليلة بأنه قد توفي....!!
مسكين إبراهيم.. أحب.. ومضت سنوات عمره.. وكبرت الفتاة التي أحبها.. وتوفيت.. وتوفى هو أيضاً.. ولم ير الصغيرة التي أحبها سوى مرة واحدة في بواكير الطفولة.