Culture Magazine Thursday  26/03/2009 G Issue 276
فضاءات
الخميس 29 ,ربيع الاول 1430   العدد  276
لغة الخوف وانعكاساتها على تقنيات السرد في الرواية السعودية(3)
نورة القحطاني

 

نلاحظ في هذا المقطع ميل الكاتبة إلى تكثيف اللغة، بكثرة التساؤلات، التي تكشف صراعها الداخلي مع مشاعرها، وتوترها وهي تلوم نفسها لتبرز لغة الأعماق خوفها من كل ما حولها فتقول :(لم يبق في غرفات القلب غير الظلام ووحشة تشبه وحشة القبور. جدة الآن ليست أكثر من قبر رحيب ومع ذلك يكاد ينطبق على ضلوعي. جدة قارة ثامنة تغور في ملح الدمع قليلا ًقليلاً بكل تفاصيلها، وأسمائها وأناسها ورمالها ومبانيها)(10) وهكذا سيطرت لغة اليأس والخوف على مفردات المقطع السابق، فلفظ (الظلام، وحشة، القبور، ينطبق، الدمع) يعبر عن معاناتها في ظل قسوة الواقع الذي تعيشه. وقد تكون عملية إجهاض الجنين ورفضها للتخلص منه والصراع الذي عانته البطلة رمزًا لصورة الخوف من الإخفاق في الإبداع، فيحكمها هذا الشعور، وتبدأ المشكلة عندما تصبح فكرة الخوف من الفشل هاجسًا للكتابة عند المرأة .

وظفت الكاتبة أيضًا تقنية الحلم باعتباره أداة تعبير تجسد من خلالها أفكارها ورؤاها، و تبوح من خلاله بمخاوفها في الواقع (فالحلم في الرواية حدث يؤكد واقعية الرواية، بوصفها حالة يستشعرها الشخص في منامه، فتومئ إلى ذكريات بعيدة أو توحي بأحداث قادمة أو تشير إلى واقع يعيشه صاحب الحلم وقد يكون الحلم في يقظة أو بين اليقظة والمنام، ويعبر عن رغبة مكبوتة في أعماق الشخصية). (11)

فعندما تتأزم الحالة النفسية للبطلة تهرب إلى الحلم رافضة الواقع عبر مفردات دالة تعمق الإحساس بالهزيمة و الضياع :) أوه، يا إلهي، أسرار، أسرار، محظورات، محرمات، حتى الناس غدوا أسرارًا مبهمة تملأ الشوارع والبيوت. و أنا؟ كنت أغبى من أتقن لعبة الأقنعة. دخلت الحفلة بوجهي وفي عيونهم كنت أقرأ استغرابًا وذهولا (ما الذي أتى بهذه الطفلة؟) (من أدخل هذه الغرة الساذجة؟). وحين بدأ اللعب كانت الأقنعة تتمزق فيبدلونها بأقنعة جديدة وكان وجهي يتمزق ودمي يسيل على رقبتي وعظامي تبرز وأظافرهم تنغرز في لحمي و أنا أصرخ وهم يضحكون، يضحكون، يضحكون (قلنا ممنوع اصطحاب الأطفال، هذه حفلة للناضجين) (أخرجوها قبل أن يلوثنا دمها)). (12)

نلمح في هذا المقطع ظهور صياغات لها دلالة قوية على ثقافة الخوف الكامنة في النفس فمفردات (أسرار، محظورات، محرمات) لها دلالات رمزية توحي بتأثير الواقع الخارجي على عالم الشخصية الداخلي، فبرز الخوف من المستقبل أيضًا في قولها :) أنا لن أكون موجودة، وأنت يا طفلي لن تكون موجودًا، وربما لن يكون هذا العالم الآيل للسقوط موجودًا، هذا العالم اللاهث الذي لم يعد قادرًا على أن يتوقف كي يلتقط أنفاسه، ربما يغدو نسيًا منسيًا، ربما يجتاحه طوفان. طوفان بلا نوح يعم الأرض ويغسلها من الشر والخطايا ولا يبقى غير الصمت). (13)

برز في الفقرة السابقة تأثر الكاتبة بالأحداث الخارجية التي يتعرض لها العالم، وما استحضارها لقضية فلسطين، وضياع الأندلس إلا صورة من الخوف الداخلي الذي تبوح به الشخصية من خلال تداعيات الذاكرة، بالإضافة إلى إفصاحها عن أثر الحرب من حولها على العالم النفسي الداخلي للبطلة التي تعيد مأساتها إلى الرعب الذي عاشته ( وكان ابريل كرمة تدلت عناقيدها غضبًا فوق جنوب لبنان. وكنت هاربة من نشرات الأخبار، من قانا، من جنون الدم إلى جنون الحب. في آخر الأمر قد يكون الحب معبرًا إلى الدم) (14) بالإضافة إلى استدعاء شخصيات معاصرة تتسم بالبطش والجبروت والظلم مثل: (إسحاق رابين، شمعون بيريز، جولدا مائير، شارون، كلينتون) فهي تتناول واقع الأمة العربية في ظل الشعور بالعجز والضعف.

و ثمة حوار داخلي آخر يتجلى فيه سخرية لاذعة عن واقع الإنسان العربي:

)شتات؟ مصر شتات؟! السعودية شتات؟! الكويت شتات؟! لا،لا. بعد أغسطس90 لم تعد الكويت شتاتًا لأحد. ها ها ها، اضحك، هذه هي المضحكات المبكيات). (15)

انعكست مواقف الكاتبة وتجربتها الفكرية والشعورية في لغتها الروائية، التي اتسمت بالتكثيف والإيحاء من خلال الألفاظ الغنية بالدلالات، يشحذها هاجس الخوف الذي تكررت مفرداته على نحو لافت، سيطر على لغة الشخصيات، وعلى عالم السرد في نسيجه وصوره. هكذا تكون لغة الخوف في الروايتين متشابهة في عدة أمور منها:

إنّ الخوف هو موضوع الرواية، يمتد بدلالة مفرداته اللغوية المباشرة وغير المباشرة، ليسيطر على الرواية ويرتد على نفسية (البطل / البطلة) في مازوشية الموت والهلاك، عندما يتنازل الإنسان بتأثير الضغط الاجتماعي عن العقل والإرادة فتتلاشى شخصيته ويرضخ للقمع الاجتماعي مؤثرًا الهزيمة على الصمود والمقاومة، والموت على الحياة، والهرب على المواجهة. كما كان تكرار مفردة الخوف عاملاً مهمًا في شحذ حالة الخوف، التي ارتبطت بظواهر أخرى : كذكر مفردات محفزة للخوف وباعثة له مثل:(الموت، الظلام، الوحدة، الغربة، القبر، الحرب، الجحيم...) وأخرى مرادفة للخوف ودالة عليه مثل: (الفزع، الرعب،الوجل، الوحشة، الهلع،...) كما تردد في النصين كثير من المفردات التي ينتجها الخوف مثل: (الهرب،الصراخ، الصمت، الارتباك، الاختباء، الانكسار، الخذلان، الانكماش، الرجاء، العجز،...)

من جانب آخر، فإنّ هاجس الخوف وما يحمله من دلالات ورموز، قد انعكس في لغة الرواية وطريقة السرد وتقنياته، فهذا الشعور الذي هيمن على الروايتين كان بحاجة إلى شكلٍ سردي ينحو إلى الداخل عبر ضمير المتكلم (أنا)، وتقنية (المنولوج الداخلي) التي جاءت متساوقة مع مضمون الرواية، ومع رؤية الكاتب الفكرية وتجربته النفسية، فجاء النص وعاءً لخوفه وهواجسه التي تشكلت في الشخصية، والمكان، والزمان، إذ أسقط الكاتب مشاعر الخوف على المكان الذي كشف لنا أفكار الشخصية ومواقفها بشكل أعمق، وساهم في إيصال دلالة الخوف الكامن داخل الشخصية، كالخوف من المدينة التي تزيد مخاوف الشخصية (جدة! ستكشف لي عن مدينة سرية أخرى في أعماقها، مدينة غامضة مريبة الظلال فيها أكثر من الأضواء، أناسها بلا ملامح أو أنهم يختبئون خلف الأقنعة، بيوتهم جحور مظلمة مثل جحور الفئران) (16) وظهر المكان المتوحش كفضاء يثير الخوف ويحفزه كالصحراء، والسجن، والغرف المغلقة والمظلمة، وكلها يثبت دلالة الخوف داخل النص، الذي يترك أثره على الزمن الروائي، حيث وظفه الكاتب كإيقاع نفسي دلالي، إذ تتأثر الشخصية بالزمن وتؤثر به، وتتخذ موقفًا منه أحيانًا، وتكون ضحية له أحيانًا أخرى، وقد يصبح الزمن مصدر خوف فتحاول بعض الشخصيات الهرب من ماضيها؛ لتأثيره السلبي على حياتها، أو ترتد إليه هروبًا من قسوة الحاضر. وكان الليل من المفردات الملازمة لحديث الشخصيات، إذ يرمز لحالة الخوف التي تعيشها، وفي هذا ما يشير إلى خوف وقلق دائم ظهر في كثير من الروايات السعودية.

إنّ ما يلفت النظر في رواية التسعينيات السعودية التي كتبت بعد حرب الخليج، وما تبعها من أحداث سياسية، وتغيرات اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، هو ظهور دال الخوف في لغتها السردية، وكانت منابعه مرتبطة بالأوضاع الجديدة التي عايشها الكتاب في تلك الفترة، وأفصح بعضهم عن موقفه منها مع اختلاف التناول من روائي إلى آخر، تبعًا لطريقة الكاتب في رسم الشخصيات وتصوير الأحداث .

وتبدو آثار الخوف واضحة في روايات تلك المرحلة بنسب مختلفة، انعكست على بناء الشخصية التي تعيش حالات متنوعة من الخوف والقلق، تدفعها إلى كشف العالم الداخلي لها وما يدور فيه من أفكار وأحلام وصراع مرتبط بما يدور خارجها ومنعكس عنه، وقد يكون نضج الكاتب ووعيه بقسوة الواقع من حوله من أسباب اللجوء إلى تقنيات تيار الوعي، التي شكلت ملمحًا بارزًا في تطور الشكل الروائي للروايات الصادرة في تلك الفترة.

وبناءً على ما سبق هل بوسعنا القول: إنّ لغة الخوف تعد مكوّنًا جماليًا وإبداعيًا في عملية التشكيل الفني للرواية، إذ كانت اللغة قادرة على توليد الدلالات واستثمارها في تصوير عالم الرواية وأحداثها ، حيث زخر الخطاب الروائي بتقنيات سردية متعددة المستويات، وظفت توظيفًا ناجحًا لخلق حداثة فنية في الرواية السعودية ذلك أنّ (أيّ عمل إبداعي حداثي هو عمل باللغة قبل كل شيء) (17) .

........................................................... انتهت

***

10) المصدر السابق، ص: 25.

11) محمد القاعود، حوار مع الرواية المعاصرة في مصر وسوريا، دمشق، أشبيلية للدراسات والنشر، 1997م، ص: 275.

12) ليلى الجهني، الفردوس اليباب، ص: 49.

13) المصدر السابق، ص: 51.

14) السابق، ص: 37.

15) نفسه، ص: 38.

16) نفسه، ص 15.

17) عبد الملك، مرتاض، في نظرية الرواية، الكويت، سلسلة عالم المعرفة،1998م، ص: 126.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة