في التغيّر:
ما قيل عن (الزمان) و(الحركة) يمكن أن ينسحب على (التغيّر) من ناحية أنه صفة لاحقة ب(متغيّر) لاحقة به لا سابقة عليه، إذ لا يوجد (تغيّر) قبل وجود (متغيّر)...
قوله في وجود وصفات واجب الوجود:
أول ما يلاحظ على ما قاله في هذا الجانب هو الاضطراب وأحياناً التناقض، فمن ناحية الاضطراب نجده قال (مقالة آل لام - ) بالتوحيد مرة ثم قال بالتعدد مرة أخرى ثم عاد فقال بالتوحيد لأن الانتظام الذي يبدو في الكون لا يمكن أن يكون من متعدد، بل لا بد أن يكون الصانع واحداً، وأما من ناحية التناقض فهو ينفي نفياً مطلقاً وجود (اللا نهائي) على حين أنه يصر على أزلية أشياء كثيرة، والأزلية تعني (اللا بدء) أي أن وجود ماهو (أزلي) ممتد إلى مالا نهاية في الماضي، ومن ذلك الكون ومنه (الزمان) و(الحركة) و(المكان)، وقد مرَّ - في ما تقدم - عرض ما نحسب أنه وقع فيه من خطأ في تصوره عن الحركة والزمان والمكان من ناحية إطلاق (الأزلية) على هذه الأشياء، وفي تعليله للحركة من ناحية غائيتها وأنها لا يمكن أن تقع في الفراغ، وقد أبانت الفيزياء الكلاسيكية- ومنها النسبية كما سبق- عدم صحة ما ذهب إليه، فلا غاية للحركة إذ أنها مثل السكون حالة طبيعية للجسم لا يستطيع الخروج عن أي منهما إلا بعمل قوة خارجية، وألا صحة للقول بعدم وجود الحركة وعدم قياسها في الفراغ، على أنَّ تعليله ل(عجلة) الجسم الساقط وهي معدل التغير في السرعة بالنسبة للزمن، وأنها تزداد بقربها من الأرض بسبب ازدياد شوق الجسم إلى مصدره، هو تصور أقرب إلى خيال شاعر منه إلى تعليل فيلسوف.
في تدليله على وجود الله رأى أنه لا يمكن الوصول إلى ذلك عن طريق البرهان لأن من لوازم البرهان وجود العلل، والله هو العلة الأولى والتفسير النهائي للكون وظواهره، فليس بعده علة، لذلك فالتدليل على وجوده بطريق البرهان أمر متعذر، لهذا لجأ في التدليل إلى طريقين:
الأول: هو أن وجود مالا يحصى من أنواع الموجودات مثل النبات والحيوان والإنسان مما يجري عليه الكون والفساد ثم إن ما عليه هذه الموجودات من أحكام في الصنعة مما يستحيل وجوده بدون موجد قادر وحكيم.
الثاني: أن أزلية بعض الموجودات مثل (الزمان) و(المكان) و(التغير) - وقد ثبتت عنده الأزلية لكل من هذه الأشياء - وليس أي منها ما هو علة أولى، فمن باب أولى أن تكون (العلة الأولى) أزلية وخالدة، وإذا كان ما قاله في هذا الجانب مما يُعقل ويُقبل، فإن الذي يتعذر قبوله هو ما قاله عن صفات الله، وهو لا يعدو تصوراً لا يوجب العقل قبوله، وليس شيئاً استخلصه من تجربة، وما أورده في ذلك يتلخص في التالي:
1- الكون أزلي غير حادث، وهذا يعني أن الله لم يخلقه.
2- الزمان والمكان والمادة والحركة أشياء أزلية لا بدء لحدوثها.
3- الله لا يحرك الأفلاك، ولكنها تتحرك برغبة ذاتية لأن الله ألهما الرغبة في الحركة.
4- الله مُحرِّك غير مُتحرِّك.
5- عمل الله هو أن يعقل ذاته، أي أن يفكر في ذاته.
ما تقدم هو ملخص ما قاله مما يتعلق بصفات وقدرة الذات الإلهية، وأول ما يلاحظ على ما أورده أنه لا يعدو افتراضاً أو تصوراً وضعه عقل فرد أو خياله، أول الخطأ في هذا التصور أن يجيز فرد لعقله - مهما كان وزنه - أن يكون مُعرِّفاً ومحدداً لصفات وقدرات خالق الكون ومبدعه والعلة التي تنتهي إليها العلل، وقد خلع على الخالق من الصفات مالا يليق إلا بمخلوق، وقاس غير المشاهد وغير الملموس ومالا يمكن أن يدخل في تجربة أو أن تستنتج صفاته عن طريق اشتقاق رياضي على ما هو مشاهد وملموس وما يخضع للتجربة والقياس أو ما يستنتج من اشتقاق رياضي، وهذا يساوي القول أن الله الكامل والخالق والعلة الأولى والتفسير النهائي للظواهر وما يستشكله العقل مما يستطيع فردٌ أن يُعرِّفَ صفاته واهتمامه وعمله وحدود هذا العمل والاهتمام، ولعله ليس هناك إفراط في خطأ أو إعطاء للعقل مالا يُعقل أي أن ينسب إلى العقل شيئاً يرفضه العقل مثل هذا الإفراط، إن الخطأ يحيط بهذا التصور والحكم من عدة جوانب:
الأول: افتراض أن عقلاً - مهما كان وزنه وقدرته - يستطيع أن يكون وحده العارف للحقيقة الكاشف لها، ويؤكد هذا الخطأ أن صاحب هذا الافتراض قد عرف وصحب من الفلاسفة قبله من شهد خطأ تصوراتهم وكان هو أقوى من رفض هذه التصورات وأراد إسقاطها.
الثاني: أنه من يدرينا أن ما نصل إليه من تصور في حدود ظروفنا وقدراتنا والمعطيات العلمية التي نملكها تمكننا من كشف الحقائق، أليس ما نعتبره حقائق مطلقة هي حقائق في حدود حالتنا الطبيعية وما لدينا من معطيات، ولو تغيرت هذه الحالات والمعطيات - ومنها القدرات الذهنية - لكان لنا على هذه الحقائق حكم آخر؟... أليس النائم يرى أحلاماً تشعره بالحزن والسرور والرضى والغضب ويرى القبح والجمال وتكون في بعضها ممارسات تشترك فيها أعضاؤه ويجدها حقيقة، بل واقعاً معاشاً فإذا استيقظ من نومه وجد ما رأى أضغات أحلام؟... أليس ما نحسه عن الجاذبية وضغط الدم وطول الليل والنهار وتعاقب الفصول ومفهوم الشهور والأعوام سيختلف عما نحسه عن هذه الأشياء لو كنا نعيش في كوكب آخر؟... ومن ناحية أخرى قال إن الله هو التفسير النهائي للعلل وما يستشكله العقل وذلك يعني أن من العلل ما لا يمكن للعقل فهمه أو تفسيره وأن هناك ما يستشكله العقل ولا يصل إلى تعليله، أي أن هناك من الحُجب مالا يستطيع العقل اختراقه فكيف جعل صفات الله مما يعرفها ويحددها عقل؟...، لقد أجاز أرسطو أن يضع نفسه في هذا الموضع وهو من هو في قدراته العقلية والمعرفية، وذلك مما يصعب تحليله وتعليله إذا استثنينا التعليل البدائي البسيط الذي يعزو مثل ذلك إلى عثرات العقل وهفواته، - وهذا كما لا يخفى تعليل يحتاج إلى تعليل -، ومن المؤكد أن الإمام مالكاً - رحمه الله - كان أكثر حصافة عقلية، بل أقرب إلى حقيقة الفلسفة عندما أطلق مقولته التي ذهبت أبعد من مثل سائر وهي قوله: (كلما يخطر ببالك فَ الله بخلاف ذلك)... كيف عزب عن أرسطو ذلك المدرك الذي يحتفظ للعقل بوقاره وتواضعه ومنه وضعه لذاته في الموضع الذي لا يخرجه عن دائرة قدرته؟... ما الذي حمل أرسطو على ذلك، هل هو شعوره بأنه الأقدر من بين فئاته ومجتمعه على أن يقوم بهذه المهمة وهو بين مجتمع يؤمن بتعدد الآلهة أو ينكر وجودها؟... هل هذه الصفات التي وصف بها الذات الإلهية وجعلها من لوازمها من حقه هو وحده أم هي مما يمكن لأي فرد أخر أن يصف الله ويصوره بما يخطر على ذهنه أو يمليه تخيله، لقد قال نيتشه إن الله لم يخلق البشر ولكن البشر خلقوه وذلك بخلعهم نقيض كل صفات النقص التي يجدونها في ذواتهم على ذات غيبية أعطوها كل صفات الكمال، وقد وقع أرسطو منذ أكثر من ألفي عام فيما وقع فيه نيتشه، على أن هناك فارقاً بيناً بين الاثنين في الغاية التي قصدوها ف- نيتشه قال ما قال لينفي وجود الخالق بإعلانه (موت الله) تعالى الله عما يقول علواً كبيراً، على أن أرسطو أراد بما ذهب إليه إثبات وجود الخالق وصفاته.
من الممكن القول أن الذي حمله على القول بأزلية ما اعتقد أزليته هو الرغبة في تجنب الوقوع في الاعتراف ب(اللا نهائي) وهو شيء ينفي وجوده، ولكن أليس القول بوجود كائن أزلي واحد لا بداية لوجوده ولا انتهاء له، وأنه عن هذا الكائن انبثقت كل الكائنات ومنها الزمان والمكان والحركة أي أنه المحدث لها أيسر على العقل قبولاً من قبوله تعدد الأشياء التي لا بداية ولا محدث لها؟... وإذا كانت حجته الأولى أنه يستحيل تحول (اللا وجود) المطلق إلى (وجود مطلق) وهو استشكال يبدو محيراً قبل ما أبانه استيفن هوكينق STEPHEN HOWKING في حلوله لبعض معادلات النسبية العامة وما استفاده منها في أبحاثه عن الثقوب السوداء، وقد تبين أنه ينبعث من (أفق الحدث) EVENT HORIZEN، وهو الحيز الذي يحيط بالثقب الأسود المبتلع لكل شيء يقع فيه أو حوله، بحيث لا يمكن حتى لموجة ضوء أن تنفلت منه، وقد لا يكون حالها مثل حالة قطاة عروة بن حزام التي قال عنها:
كأن قطاة عُلِّقتْ بجناحِها على كبدي من شدةِ الخفقان
ومن ناحية أخرى: من المحتمل أن ما حمله على القول بأزلية ما أطلق عليه الأزلية هو تنزيه الخالق، ذلك أنه قد يخطر على العقل أن القول بأن هذه الكائنات أي (الزمان) و(المكان) و(الحركة).. إلخ من المحدثات يحمل على التساؤل عن سبب إحداثها، وهذا الأحداث لا يخلو من أحد أمرين، أحدها: أنها أحدثت لحاجة إلى إحداثها والثاني: أنها أحدثت لغير حاجة, القول بالاحتمال الأول، أي أنها أحدثت لحاجة ينطوي على نسبة الاحتياج إلى الله، والكامل لا تعتريه حاجة لأن الاحتياج نقص في الكمال، على أن القول بالاحتمال الثاني أي أنها أحدثت لغير حاجة يعني العبث، وهو إيجاد مالا حاجة لإيجاده وليست هناك علة أخرى أوجبت الحدوث، ووجود علة يُبرز سؤالاً هو هل هذه العلة قديمة أم حادثة؟... فإن كانت قديمة فما الذي أخرَ الحدوث عنها، وإن كانت حاثة فما سبب حدوثها، وهذا الاستشكال قد يبدو مربكاً للمثبتين، على أن وضع القضية في هذا القالب خطأ من الأساس، إذ إنه - كما سبق قوله - نقل لقضية غائبة في طبيعتها وأبعادها وغاياتها عما يعرفه البشر إلى ما يعرف البشر من مقاييس ومحاكمات، وهنا يظهر تجاوز العقل عنده في إجازته لنفسه الحكم فيما يعلم وما لا يعلم وما يشاهده وما يغيب عنه، وفي فصل (هل العقل شاهد زور) الذي سيأتي في الجزء الأخير من هذا الكتاب، مناقشة ما يصل إليه العقل في تحليقه وما ينحط إليه عندما تهنُ جناحاه.
.................................................. انتهت
الرياض