تكاثرت الأخبار مؤخراً عن تزويد بعض المحاكم الشرعية، وبعض إدارات كتابة العدل بتقنيات (الحاسب الآلي) وبدء العمل بها فعلاً.
وكنت كل ما قرأت خبراً من هذا القبيل.. أجد نفسي مبتسماً مع شريط من الذكريات عن عملي في المحاكم الشرعية، وكتابة العدل، حيث كنت (كاتب ضبط وعدل ومأمور بيت المال في محكمة (الموسم)) منذ (52 عاماً) تقريباً.
وكان عمري - حينذاك - (17 عاماً) اضطررت إلى زيادته في الحفيظة مدة عامين كاملين لكي يتفق عمري مع التحديد النظامي (18 عاماً).
ثم كلفت - بعد ذلك - بالقيام بأعمال (محكمة الكامل) لأكثر من سنتين.. وكان تكليفي بذلك - على الرغم من صغر سني - من قِبل سماحة الشيخ (حسن بن عبدالله آل الشيخ) شخصياً بصفته - حينذاك - نائب رئيس القضاة بالمنطقة الغربية.. رحمه الله.. رحمه الله.
ومعنى ذلك أنني قد تمرست بأعمال المحاكم، وكتابة الضبط، والعدل، وخبرت سير أعمالها، مع ما كان في هذه الأعمال من رداءة، وسوء فهم.. بل عدمه في معظم الأحوال.. بل عدم أدنى معرفة إدارية لدى معظم القضاة أنفسهم.. فضلاً عن كتاب الضبط، والعدل، وغيرهم.
والأدهى والأطم من كل ذلك ضعف التحصيل العلمي ضعفاً شديداً لدى كثير من القضاة حينذاك، وربما إلى الآن!!
وأذكر - على سبيل المثال والتأكيد - أن أحد القضاة كان قد رسب في السنة الثانية المتوسطة بأحد المعاهد العلمية، ولكنه تعين فوراً - بالوساطة طبعاً - بوظيفة (قاض) لمحكمة مستقلة به وحده.
وذلك مجرد مثال - كما أسلفت - وإلا فإن الله يعلم.. وأنا أعلم أيضاً وجود كثير من القضاة أضعف من صاحبنا الراسب في السنة الثانية المتوسطة!!
ولابد من الإشارة هنا إلى شخصي الضعيف للضرورة.. وليس لتزكية نفسي، والعياذ بالله.. حيث كنت طالب علم محظوظاً بالنجابة كما كان يصفني شيخي العلامة الجليل (حافظ بن أحمد الحكمي) الذي درست عليه شخصياً معظم المتون (التفسير، الحديث، الفقه، النحو، الصرف، الفرائض) إلى غير ذلك من المواد الأساسية في الدراسة السلفية.
ثم عندما تم تأسيس (المعهد العلمي بصامطة) كان مديره - منذ التأسيس - شيخنا الجليل نفسه وكنت - مع قلة من زملائي طلاب الشيخ - أعلى في مستوانا العلمي من مستوى المنهج الدراسي للمعهد مما كان موضع استخفاف شيخنا، وسخريتنا نحن طلابه أيضاً!!
ولكن شيخنا ألحقنا بالمعهد من أجل الحصول على المكافأة المادية التي يمنحها (المعهد) لطلابه، وهي (150 ريالاً في الشهر) وكان ذلك (عام 1373هـ) يعد مبلغاً كبيراً بالنسبة لجميع الطلاب. وهكذا تخرجنا أيضاً من المعهد، وحصلت على شهادته الثانوية.
ويشاء الله أن يطلبني الشيخ منصور بهلول، وهو بمثابة عمي - رحمه الله - وكان يشغل منصب (قاضي محكمة الموسم).. طلبني لوظيفة (كاتب ضبط، وعدل، ومأمور بيت مال المحكمة) في الوقت الذي كنت فيه - مع بعض زملائي - على وشك السفر إلى (الرياض) للالتحاق بكلية الشريعة حسب نصيحة شيخنا (الحكمي).. ولكن إلحاح العم الشيخ (منصور بهلول) وهو على معرفة كاملة بي شخصياً ويقدر تحصيلي العلمي.. ثم ضخامة راتب الوظيفة بالنسبة لي!!
كل ذلك جعلني أوافق على توظيفي من حيث طار بي الفرح طيراناً!!
وكنت بالمصادفة.. قد تدربت على عملي في المحكمة نفسها لمدة شهرين أثناء عطلة دراسية.
دربني أعز، وأغلى صديق لي.. كان يشغل الوظيفة نفسها بجدارة متناهية حيث تدرب هو الآخر لمدة طويلة على رجل عليم في شؤون أعمال المحاكم، وكتابة العدل وقد أمضى مدة طويلة في هذه الأعمال، وحيث تلقى هو أيضاً تدريباً راقياً في بدء عمله.
أما سبب تدريبي فهو أن الصديق الأعز المشار إليه (هادي حمد المدخلي) - رحمه الله - قد نوى الحج.. ولم تكن تمنح الإجازة - حينذاك - إلا أن يأتي طالب الإجازة بمن يقوم بعمله.. فكلفني بذلك، وقام بتدريبي بدقة بالغة، وكنت صاحب حفظ، ودقة استيعاب سريع بفضل الله.
ويشاء الله - جلت قدرته - أن يتوفى صديقي على نحو مفاجئ جداً.. قبل أن يتم حجه.. وهكذا - للعجب الشديد - أصبحت في وظيفته!!
وهكذا باشرت عملي بمقدرة علمية أكثر من كافية.. ثم بقدرة إدارية مدربة، واعية، مع الاستمرار في التحصيل العلمي الذاتي المدعوم بتوجيهات شيخي، وتشجيعه ونصحه لي بالتركيز على (الأحكام الشرعية) على الرغم من عدم حاجة وظيفتي إلى ذلك بالضرورة، ولكني توغلت في ذلك إنفاذاً لوصية شيخي من جهة وإشباعاً لرغبتي المتزايدة في طلب العلم.
وقد ساعدني في دراستي للأحكام، وجود عدد من أهم الكتب المتخصصة في المحكمة ذاتها، حيث كانت (رئاسة القضاة) - حينذاك - توزع الكتب الشرعية، أو الفقهية المهمة على مختلف المحاكم.
وأكاد أجزم أن الرئاسة.. كانت تفعل ذلك، على الرغم من علمها.. بل يقينها من عدم إمكانية الاستفادة منها لدى الكثير من القضاة حيث مستواهم العلمي، أو تفشي الضعف العلمي بينهم لا يمكن أن يتيح لهم أدنى استفادة من تلك الكتب الراقية جداً، والصعبة الفهم لأي طالب علم قد حصل على بعض تمكّن من ذلك!!
وقد يتساءل بعضهم عن كيفية عمل هذا النوع من القضاة.. ثم كيفية إصدار أحكامهم، وما تتطلبه أعمالهم.. فأجيب عن ذلك - من واقع معرفة دقيقة وثيقة بكثير من القضاة، وأعمال كثير من المحاكم - يضرب مثل حضرمي يقول: (القضاء يفقه) أي أن ممارسة القضاء طويلاً، مهما كثرت فيه الأخطاء..
لابد أن يجعل القاضي الجاهل يستفيد - ولو بعض الشيء - من كثرة أخطائه، وطول ممارساته، وهذا صحيح إلى حدٍ ما!!
ولكنه ليس كل شيء.. بل هناك ما يتمتع به بعض هذا النوع من القضاة، سواء من الذكاء، أو سعة الحيلة، ومنها اللجوء الواسع إلى ضرورة الإصلاح بين المتخاصمين، وطلب المساعدة في ذلك من مشايخ القبائل، وكبار القوم.
وأهم من ذلك أن الكثير من القضايا التي تثار في المحاكم تتعلق بملكية الأراضي، أو حدودها، أو مصادر سقياها، أو نحو ذلك مما يتعلق حكمه لدى القبائل بالأعراف السائدة فيستغل القاضي ذلك، ويأمر المتخاصمين باختيار (أمناء) للنظر في قضيتهم فيحكم القاضي بما حكم به (الأمناء) على الرغم من كون أحكامهم عرفية.. قد تتعارض - أحياناً - مع الأحكام الشرعية.
وهناك وسائل كثيرة - يصعب حصرها هنا - يلجأ إليها القضاة، هرباً من إصدار حكم شرعي. ولكنهم - على الرغم من كثرة وسائلهم، وسعة حيلهم - يضطرون أحياناً إلى حتمية الحكم الشرعي، وبخاصة في مسائل الحدود الشرعية، والنكاح، والطلاق، والخلع، وما يتعلق بكل ذلك.
وكان المفروض - منذ ذلك الحين إلى الآن - أن يكون أي حكم بموجب صك شرعي يثبت ما تم تسجيله في (دفتر الضبط) ويخلص إلى الحكم مع كل ما يلزم من أدلة شرعية.
ولكن الكثير.. بل معظم القضاة لا يصدرون صكاً واحداً على مدى عملهم في القضاء لكيلا يتعرض الصك للتمييز لدى رؤساء محاكم المناطق كما كان المتبع حينذاك بيد أن رؤساء محاكم المناطق كانوا يتغاضون عن إلزام القضاة بمسألة إصدار الصكوك.. بل اكتفوا بتوجيههم إلى ضرورة الاستفسار بالنسبة لما يشكل عليهم في الأحكام.. ولكن القضاة لم يلتزموا حتى بالاستفسار كي لا يفضحوا أنفسهم، وضعف تحصيلهم العلمي!!
وهكذا كانت تضيع حقوق الناس بعدم إصدار صكوك الأحكام.. بل عدم صدور أحكام أصلاً، وإن صدرت فهي عبارة عن خطابات عادية صادرة من القاضي إلى (الإمارة) التي تقوم بالتنفيذ على كل حال.. ولكن لا يمكنها إعطاء صورة من خطاب الحكم لصاحبه، ولا المحكمة تنقل له صورة منه حيث التصوير الضوئي لم يكن موجوداً، وحتى لو كان موجوداً فإن القاضي يحرص على عدم إعطاء صورة من خطابات أحكامه!!
وبمناسبة ذكر صكوك الأحكام.. أذكر أن أحد القضاة الذين خلفوا العم الشيخ (منصور بهلول) في المحكمة التي أعمل بها.. عُرضت عليه قضية ضخمة بالنسبة له.. تتعلق ب(علم المواريث) وبالذات في مسألة (التناسخ)، وكان القاضي لا يفقه شيئاً في هذا (العلم) في الوقت الذي اشتهرت فيه عند شيخي وزملائي ومعارفي، وحتى عند فضيلة رئيس محاكم المنطقة، وفضيلة مساعده، وبعض المشايخ وبعض القضاة.. اشتهرت باتقاني لهذا العلم، ودقتي فيه حيث درسته على شيخي بهواية شديدة خاصة به.
حتى لقد انتقدت - منذ مدة قريبة جداً - كتاباً حديثاً عنوانه (علم المواريث) لعالم أكاديمي يعمل أستاذاً في (المعهد العالي للقضاء) وكنت - بحمد الله - على حق كامل في نقدي!!
ونعود للقضية الإرثية الضخمة المطروحة على القاضي الذي لم يجد لها عنده أدنى مخرج بطبيعة الحال في الوقت الذي استكبر على الاستعانة بي - ولا حتى سراً - لخلاف بيني، وبينه.. فاضطر في النهاية إلى أن يدوس على كرامته، وكبريائه، والذهاب بنفسه إلى فضيلة رئيس محاكم المنطقة (الشيخ عبدالعزيز الفوزان) - رحمه الله - ليطرح القضية بين يديه طالباً توجيهه وعونه.. ولكن الشيخ الفوزان بادره متسائلاً:
وأين أنت عن (الابن: علي العمير) وهو كاتب بالضبط لديك، والعارف تماماً بهذه القضية، ونحوها سواء من الناحية الشرعية.. أو من ناحية الأعراف القبلية المهمة في مثل هذه القضية.
وكان القاضي لا يعرف مكانتي عند الشيخ الفوزان فانهال عليّ طعناً، وتجريحاً، ووصفني بأنني مجرد (ولد صغير)!!
فغضب الشيخ الفوزان وهو يقول للقاضي:
إما أنك لا تعرف قدر (الابن علي) وإما أنك تتجاهل ذلك لما بينك وبينه من خلاف!!
وأخيراً.. انتهت تلك القضية الكبيرة بندبي لها من قِبل رئيس محاكم منطقة جازان نفسه!!
وما أكثر ما كانت تضيع حقوق الناس، سواء بسبب ضعف الكثير من القضاة، أو بسبب عدم توثيق الأحكام في الصكوك.. بل عدم توثيقها حتى في دفتر الضبط، ولا حتى في سجلات الخطابات الصادرة حيث يكتفي في هذه السجلات بذكر نوع الخطاب فحسب ولو كان الخطاب عبارة عن حكم شرعي!!
وهكذا كان علمي بأخبار بدء استخدام تقنية (الكمبيوتر) في بعض المحاكم، وبعض إدارات كتابة العدل، ومعرفتي بما في ذلك من حفظ لحقوق الناس فيما يحصلون عليه من صكوك أحكام شرعية.. أو صكوك مبايعات.. أو الكثير من نحو ذلك، هو الباعث على هذه العجالة من ذكرياتي.. فيا لتطور الأزمان!!
جدة
فاكس 6208571