لعل من الحق القول إن الاحتفاء بالأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع، بوصفه محققاً سعودياً فائزاً بجائزة الملك فيصل العالمية، يعد احتفاءً بحركة تحقيق التراث في المملكة، وبجهود المحققين السعوديين الذين مارسوا هذه المهنة عن شوق ومحبة، وما كان المحتفى به إلا واحداً منهم.
لقد اهتمت بلادنا بنشر الكتاب التراثي منذ عهد مبكر في تكوين الدولة السعودية الثالثة، فقد كان الملك المؤسس عبدالعزيز يواصل نشر كتب التراث قبل توحيد المملكة، يطبعها الملك في الهند أو مصر، كما يشارك في طباعتها بعض الموسرين من أبناء البلاد. وعندما بلغ الملك عبدالعزيز مكة المكرمة كان من أول الأعمال الثقافية سنة وصوله إصدار كتابين تراثيين أحدهما مجموعة التوحيد وهو مجلد كبير يضم مؤلفات لعلماء الدعوة السلفية إلى جانب علماء قدماء. والثاني كتاب يتناول مناسك الحج.
ولقد تميزت حركة نشر التراث في بلادنا بمرحلتين مهمتين:
أولاهما: مرحلة الريادة.
والثانية: المرحلة الأكاديمية.
قاد المرحلة الأولى علماء ومثقفون وناشرون، وكان بعضهم يصنع صنيع الناشرين القدماء، مصححي المطابع سواء في مصر أو في مكة، فيقتصر على تصحيح النص، وتحريره بقدر الاستطاعة. وبعضهم يضيف إلى الهوامش شروحاً ويقابل بين النسخ، وبعضهم يتأثر بحركة التحقيق الحديثة عند المستشرقين، والمحققين العرب، دون التزام صارم بقواعد التحقيق التي وضعها المحدثون.
من أهم الأعلام في هذه المرحلة من السعوديين رشدي الصالح ملحس، وحمد الجاسر، وأحمد عبدالغفور عطار، ومحمد أحمد العقيلي، وأسعد طرابزوني.
أما المرحلة الأكاديمية فهي التي بدأت بجهود أساتذة الجامعات السعودية الأوائل، الذين حملوا معهم المنهجية العلمية الصارمة، كما تعلموها في الجامعات الغربية. وبعضهم كانت أعمالهم المحققة جزءاً من متطلبات الحصول على الدرجات العلمية التي حصلوا عليها.
من أهم أعلام هذه المرحلة المبكرة، وهي مرحلة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية (الستينيات والسبعينيات الميلادية) حسن الشاذلي فرهود، الذي نشر في القاهرة كتاب الإيضاح العضدي سنة 1389هـ- 1969م وهو جزءٌ من رسالته للدكتوراه، ويعد أول أكاديمي سعودي ينشر كتاباً محققاً، وعبدالعزيز بن عبدالله الخويطر الذي نشر سنة 1390هـ - 1970م تاريخ الشيخ أحمد بن منقور وهو أول أكاديمي ينشر كتاب تاريخ محققاً، ولم يكن العمل جزءاً من رسالة الدكتوراه. وأحمد بن محمد الضبيب، الذي نشر في الرياض كتاب الأمثال لأبي فيد السدوسي، سنة 1390هـ - 1970م، وهو أول أكاديمي ينشر كتاباً أدبياً محققاً، ولم يكن الكتاب جزءاً من رسالة الدكتوراه. وحسن باجودة، الذي نشر سنة 1392هـ - 1972م ديوان عبدالله بن رواحة الأنصاري، كما نشر في السنة التالية ديوان أبي قيس صيفي بن الأسلت، وكلا الديوانيين جمعهما المحقق من المصادر، ولم يكونا عن نسخ خطية، وبذلك يكون الدكتور باجودة أول من جمع شعراً متفرقاً لشعراء قدماء من السعوديين. وكان العملان جزءاً من رسالته للدكتوراه.
ويلفت النظر أن تكون جميع هذه المؤلفات لأولئك الباحثين السعوديين هي النشرات الأولى الرائدة في العالم العربي.
في المرحلتين تتفاوت درجات الجودة بحسب علم المحقق، وإخلاصه لعلمه وهدفه. وليس المقام مقام تفصيل في ذلك.
يأتي عبدالعزيز المانع ضمن جيل أساتذة الجامعات الذين نبغوا بعد بداية القرن الخامس عشر الهجري (الثمانينيات الميلادية)، وهي مرحلة مميزة بعدة صور: منها إنشاء المؤسسات العلمية التي ترعى التراث، ومنها اعتراف الجامعات بالتحقيق في الدراسات العليا، وفي الترقيات، فانصرف طلاب الدراسات العليا إلى هذه الناحية، ومنها الوفرة المادية التي نعمت بها المملكة وكان من نتائجها اكتمال المكتبات العلمية التي احتضنت المخطوطات والمصادر المهمة من التراث، وعلى رأسها مكتبة جامعة الملك سعود التي كانت لها ريادة لا تنكر فيما قبل بداية القرن. وكذلك إنشاء مكتبات أخرى احتذتها وسارت على منوالها.
لعل أقدم عمل نشره الدكتور المانع كان كتاب المنتخب من كتاب الشعراء لأبي نعيم الأصبهاني (ت430هـ - 1038م)، نشره سنة 1402هـ - 1982م في الرياض، عن مخطوط ضمن مجموع في المكتبة الظاهرية بدمشق.
لقد اكتنف الغموض مؤلف الكتاب، فهل هو أبو نعيم الأصبهاني نفسه انتخبه من كتاب له كبير عنوانه كتاب الشعراء، أم انتخبه من كتاب يسمى كتاب الشعراء لغيره كان معروفاً في زمنه؟ أم أن المنتخِب (بكسر الخاء) شخص آخر انتخبه من كتاب كبير مفقود لأبي نعيم. يذهب المحقق إلى أن أبا نعيم هو مؤلف المنتخب لكنه لا يجزم بذلك، ويترك الباب مفتوحاً إلى أن يعثر على نسخ أخرى لهذا المخطوط.
وفي السنة ذاتها نشر المانع مع الدكتور وليد قصاب كتاب الأفضليات، وهو مجموعة من سبع رسائل كتب بها المؤلف علي بن منجب المعروف بابن الصيرفي إلى الملك الأفضل أحمد بن بدر الجمالي أمير الجيوش المصرية في زمنه (ت سنة 515هـ) واعتمد المحققان على نسخة وحيدة في مكتبة الفاتح بتركيا، منها مصورة في مكتبة جامعة الملك سعود، ويعتقد أنها من مخطوطات القرن السادس الهجري.
وفي السنة التي تلت نشر رسالة صغيرة في مجلة عالم الكتب (مج4، ع1، رجب 1403هـ - إبريل 1983م ص ص 98-100) لجلال الدين السيوطي عنوانها: إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء، على ثلاث مخطوطات في مكتبات تركيا، لم يذكر تواريخ نسخها لكن المحقق يرجح أن تكون من مخطوطات القرنين العاشر أو الحادي عشر.
وفي السنة التي بعدها 1404هـ - 1984م أصدر المانع كتابين محققين أحدهما عنوانه: ترسل ابن قلاقس الإسكندري، وهو من رجال القرن السادس الهجري (سنة 567 - 1172م) والثاني: الزهر الباسم والعرف الناسم في مديح الأجل أبي القاسم، لابن قلاقس نفسه، نشرتهما عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود.
الكتابان لمؤلف واحد، الأول جملة من رسائله، والثاني يحوي نثراً وشعراً للمؤلف، في مديح أبي القاسم بن حجر بن حمود القرشي، زعيم المسلمين في جزيرة صقلية في القرن السادس، كما أشار إلى ذلك ابن جبير في رحلته.
نشر المانع كتاب الترسل عن نسختين إحداهما في مكتبة خير الدين الزركلي، والثانية في دار الكتب المصرية. أما كتاب الزهر الباسم فكان عن نسخة وحيدة في مكتبة رئيس الكتاب في المكتبة السليمانية، ضمن مجموع.
وتحمل لنا سنة 1405-1985 من تحقيقات المانع كتاب عيار الشعر لابن طباطبا العلوي (ت 322هـ). وقد حققه على نسخة وحيدة محفوظة في مكتبة الإسكوريال، وقد كتب بخطين مختلفين، وكان الفراغ من نسخة سنة 877هـ. كان كتاب عيار الشعر قد صدر في طبعة سابقة بتحقيق كلٍ من الدكتور محمد زغلول سلام والدكتور طه الحاجري سنة 1956م، وأعيدت طباعة هذه النشرة سنة 1980م بتحقيق الدكتور سلام منفرداً، وقد راجع المانع هذه النشرة، وسطر عليها ملحوظات إلى أن الكتاب في هذه النشرة غير جدير بأن يطرح للناس، ورأى أن يعود إلى الكتاب في أصله المخطوط ويعيد تحقيقه على أسس علمية ومنهجية مع بيان أخطاء نشرة الدكتور زغلول سلام.
بحيث تعد نشرة المانع أوثق نشرة لهذا الكتاب وأكثر منهجية.
وحسب علمي لا أجد للمانع نشرات تحقيقية في السنوات السبع التالية حتى سنة 1412هـ - 1991م حين يخرج لنا تحقيقه لكتاب من اسمه عمرو من الشعراء لابن الجراح. على نسخة خطية في مكتبة فاتح بتركيا.
لم يتح لكتاب من اسمه عمرو من الشعراء أن ينشر نشرة علمية موثوقة قبل نشرة المانع، فقد سار في تحقيقه على الأسلوب العلمي الرصين من ضبط النص وتحريره، والتخريج لنصوصه، والترجمة لأعلامه، وصنع الفهارس له.
ولا تشير أوراقي إلى أعمال تحقيقية للمانع فيما بين السنتين 1412هـ و1422هـ، وقد يكشف بعض هذا الغموض ما يذكره في مقدمته لكتاب المآخذ على شراح المتنبي، الذي يبدو أنه بدأ خطواته في تحقيقه منذ سنة 1415هـ، فهو يقول: (ومرت السنون وحل عام 1415هـ وكنت قد حققت عدداً لا بأس به من المخطوطات، فبدأت أبحث عن عمل جديد، يستحق الجهد المبذول فيه، وكنت قد أنسيت عمل ابن معقل ومآخذه على شراح ديوان المتنبي، ولكن دار حديث بيني وبين أخي وزميلي الأستاذ الدكتور محمد الهدلق فسألني عما أنوي عمله بعدما فرغت مما كنت مشغولاً بتحقيقه فقلت إني
ما زلت أبحث عن عمل له وزنه، وإذا به يشير عليّ بتحقيق كتاب المآخذ على شراح المتنبي، بل ذهب - جزاه الله خيراً - إلى أبعد من هذا، فقدم لي العمل كاملاً مصوراً على ورق في أجزائه الخمسة (المآخذ ص6).
تلك إذن هي سنوات الترقب، والتقاط الأنفاس، والبحث عن عمل، وقد وقعت يده على المطلوب سنة 1415هـ ولم يكن المطلوب سهلاً، بل كان كتاباً ضخماً يتكون من خمسة أجزاء. فقد بين أبو العباس أحمد بن معقل الأزدي المهلبي (ت644هـ) في كتابه المآخذ على شراح المتنبي نقده لخمسة من الشراح هم ابن جني في الفسر، وأبو العلاء المعري في اللامع العزيزي، وأبو زكريا التبريزي في الموضح، وأبو اليمن الكندي في الصفوة، وأبو الحسن الواحدي في شرحه الشهير لديوان المتنبي.
نحن إذن أمام عمل كبير، يدخله المانع مقتحماً جامعاً لتحقيق هذا الكتاب عدته، ليس في الحصول على نسختيه الخطيتين وحسب، وإنما بجمع جميع شروح ديوان المتنبي المطبوعة والمخطوطة، للرجوع إليها عند التحقيق. هذا إلى مصادر أخرى اقتضاها التخريج لبعض نصوص الكتاب. وصرف له من الجهد والوقت ما جعله يخرج لنا عملاً يتميز بالدقة والإتقان، وقد صدر الكتاب سنة 1422هـ عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
لقد أتم الدكتور المانع التحقيق لكتاب ابن معقل على نسختين خطيتين إحداهما نسخة مكتبة فيض الله باستانبول، ويرى المحقق أنها بخط المؤلف، والثانية في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، وقد كتبت سنة 1040هـ.
لكن إنجاز هذا العمل الضخم ما لبث أن أغرى المانع في أن يتحول به إلى ما يشبه المشروع العلمي الكبير، فانطلق منه إلى تحقيق كتابين آخرين يدوران في فلك شروح شعر المتنبي، أحدهما كتاب قشر الفسر لأبي سهل محمد بن الحسن الزوزني (ت 445هـ تقريباً)، الذي صدر سنة 1427هـ، والثاني كتاب اسماه الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي لأبي الفتح عثمان بن جني.
أما كتاب القشر فقد حققه على نسختين في دار الكتب المصرية إحداهما كتبت سنة 475هـ وهي الأصل، أما الثانية فنسخة حديثة نقلت عن هذه النسخة الأصل سنة 1355هـ.
وموضوع الكتاب واضح فهو انتقاد المؤلف أبا الفتح عثمان بن جني في شرحه لديوان المتنبي المسمى بالفسر.
أما الكتاب الذي أسماه بالفسر الصغير فهو كتاب لابن جني سبق أن نشر بعنوان: (الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي) لأبي الفتح ابن جني، وقد نشره الدكتور محسن غياض عجيل في بغداد سنة 1973هـ.
يفسر المانع سبب إقدامه على تحقيق هذا الكتاب مرة أخرى في مقدمة الكتاب بأن ذلك (بسبب شكوك كانت تراودني في أمره، وفي أمر عنوانه، وفي جهد محققه وفي تحقيقه) (الفسر الصغير ص9) ثم ذكر هذه النقاط بالتفصيل.
والواقع أن المانع قد أخرج بتحقيقه هذا الكتاب نسخة قيمة، جديرة بالاعتماد أكثر من تلك الصادرة بتحقيق الدكتور عجيل.
تلك هي مجمل أعمال المانع التحقيقية، لكن عندما نناقش منهجه في أعماله نجد باحثاً متمكناً، ومحققاً أميناً، يحاول تحرير النص، واطلاع القارئ على كل ما فيه، ويبذل ما في وسعه في خدمته. ويعد له الأدوات اللازمة كي يخرج على أفضل صورة.
ومن خير ما في كتبه التي تناولها بالتحقيق مقدماته التي تمثل دراسات مستوعبة، تعالج موضوع الكتاب، وقيمته، وسيرة مؤلفه، ووصف مخطوطاته، ومآخذه على من سبقه من المحققين.
ولعل من أفضل ما قرأته له في هذا الصدد ذلك الجزء الذي خص فيه مؤلف كتاب قشر الفسر بالحديث.
لقد كان أبو سهل الزوزني العارض مؤلفاً يكاد يكون مغموراً عند مصنفي التراجم، على الرغم من أنه كان من دهاة السياسيين في الدولة الغزنوية الذين يشار إليهم بالبنان. ومع شح المصادر بنى المانع له ترجمة رائعة مفصلة، باستقراء التاريخ الغزنوي، واستخراج ما يخص أبا سهل الزوزني منه، ذلك الرجل السياسي الشرس، الذي حالفه الحظ دائماً في حالات الانتصار، وفي حالات الانكسار. فأطلعنا على المشهد السياسي الذي كان يجول فيه هذا الأديب ويصول، قبل أن تدركه الشيخوخة وينصرف إلى التأليف.
هذه الترجمة التي صنعها المانع فريدة في بابها، يمكن أن تكون نواة لا لعمل علمي تاريخي، يتناول حياة سياسي قوي الشكيمة، وحسب، ولكن لعمل إبداعي أيضاً يروي سيرة هذا السياسي الماكر، والأديب الأصيل، والناقد المتمكن.
إنني إذ أهنئ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع بنيله هذه الجائزة الرفيعة، فإنني أرجو الله أن يمده بالصحة. ويبارك في جهوده، ويوفقه إلى الخير.