حين أنهيت مرحلة الماجستير في جامعة القاهرة كان لا بد لي من العودة سريعًا إلى أرض الوطن لمتابعة معاملة مواصلتي دراساتي العليا؛ إذ المهلة التي تمنحها الجامعة قد انتهت، مضيت بمعاملتي التي أخذتها مناولة من إدارة البعثات إلى القسم، وكان الوقت صيفًا، فلا أساتذة هناك ولا طلاب. دخلت غرفة إدارة القسم فإذا شاب يجلس إلى مكتب وينظر في جملة أوراق، لم أكن أعرفه من قبل، ولكن قلت في نفسي لعله سكرتير للقسم، سلمته المعاملة فنظر فيها، فعرف أني الطالب المبتعث إلى جامعة القاهرة، رفع بصره إلى وابتسم ابتسامة حلوة لا أنساها، كان وجهه يشع بشرًا وسماحة، لم يسألني عن علة تأخري، ولم يعتب أو يبد أي لون من ألوان الضيق، بل قال والابتسامة لا تفارق وجهه: ماذا تريد؟ أتريد أن تتعين محاضرًا في القسم أم تريد مواصلة البعثة؟ قلت: بل مواصلة البعثة. فأشر بالموافقة على المعاملة. أما أنا فخطفتها لإنهاء أمرها، ولا أذكر حين خرجت أسلمت أم لم أسلم. مضت سنوات أخرى أنهيت فيها دراستي ثم عدت لأتقدم للتعيين أستاذًا مساعدًا في القسم، وحين رأيته كان يقف إلى جانب الدكتور محمد الهدلق فراح الدكتور محمد يعرفني به فقال الدكتور المانع وهو يضحك بمرح: كيف لا يعرفني وقد مططت بعثته!
منذ ذلك الوقت عرفت الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع الإنسان، في مجلس القسم ينتبذ لنفسه مكانًا قصيًّا ولم يكن يطلب الكلام ليسمع الآخرين صوته بل ليحل إشكالا أو ليبدي رأيًا سديدًا.
كان لي فرصة مزاملته في بعض أعمال اللجان فكانت فرصتي لأتعلم منه كيفية السؤال وطريقة التقويم، كنا مكلفين بلجنة المعيدين والمبتعثين، فكنا نقابل المتقدمين للإعادة فرأيته كيف يدير لجنتنا بحكمة ويوكل إلينا أن نسأل المتقدم حسب الاختصاص الذي يريد مواصلة دراساته وفاقها، ورأيت أنه يوجهنا إلى الشمول في طرح الأسئلة والعمق في سبر مهارات المتقدم.
أذكر أننا في لجنة من اللجان وكان لي رأي مختلف في مسألة درستها اللجنة، ولكني تخلفت عن حضور الاجتماع لأمر قاهر، فأوصت اللجنة بما لا أوافق عليه، فلما عرض الأمر في مجلس القسم طلبت الكلمة وأبديت مخالفتي لقرار اللجنة، ثم طلب الدكتور الكلمة وبين أنه ليس من حقي الاعتراض وقد غبت عن حضور اجتماع اللجنة، فطلبت الكلمة مرة أخرى وحاولت الدفاع وقد ظهر علي الضيق والغضب، واحتججت بأن لي الحق بالاعتراض بصفتي عضو المجلس لا عضو اللجنة، وانتهت المسألة على أمر لا أذكره الآن. ولكن الذي أذكره ولا أنساه أنّ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز يأتي إلي في المكتب ليعتذر عن قوله الذي قاله في المجلس وهو والله لم يقل سوى الحق، ولكنه كرم الأخلاق منه خشي أن يبقى في نفسي شيء من الكدر، لم يكن غيره ليفعل ما فعل، ولكنه المانع الإنسان.
كان الأستاذ معنيًّا بتعقب أخطاء تحقيق لديوان حققته زميلة من جامعة عربية، وكان ينشر التعقيب في حلقات، ويفاجئني ذات يوم وهو يدخل مكتبي ليخبرني بأمر عمله العلمي هذا وكان اكتشف أن المحققة هي زميلة وصديقة لأسرتي فكان يسألني أينشر ما كتب أم يضرب عنه صفحًا؟ إنها حساسية المانع الإنسان إنه يريد الإصلاح والخير ولكنه مع ذلك يدافع الأذى ويرعى الزمالة.
واشتركنا في لجنة إعداد موسوعة كبيرة، وكان الاتفاق بيننا وبين إدارة الموسوعة أن تهدى إلى كل واحد منا نسخة من الموسوعة، ولكنا تفاجأنا بعد النشر أنّ الإدارة تشترط لتسليمنا نسخة من الموسوعة، أن نوقع تعهدًا بقراءة الموسوعة كاملة وموافاة الإدارة بما وقع فيها من أخطاء. فكان هذا مبعث غضب شديد أظهرته حين اتصلت بسكرتير الموسوعة وقلت له إني لا أريد النسخة ما دامت مشروطة، لقد أحسست بإهانة كبيرة. وقررت أن أتركها ولا أبالي، وعلم الأستاذ بما كان مني وبالقرار الذي قررته. وفاجأني بزيارة إلى مكتبي، دخل وجلس وبدأ يحدثني بهدوء شديد ونقل لي استياءه هو أيضًا، وقال ما نصه وليسامحني بذكر النص لأنه في الحقيقة هو ما أعاد إلي رشدي وفثأ سورة غضبي، قال: (أنا أحمق عباد الله ولكني لن أترك لهم الموسوعة بسبب ورقة توقع، هم يريدون منا أن نترك النسخة). وهكذا استطاع بتلطفه وحسن مدخله وقوة إقناعه أن يغير رأيي. ولكن العبرة ليست في نجاحه بل في هدفه وحرصه على منفعتي، وهذا هو المانع الإنسان.
إن الحديث ليطول في ذكر مناقب الأستاذ وحسن تعامله مع زملائه وأبنائه الطلاب، ومع هذا تراه جم التواضع، وكان يتجنب الظهور الإعلامي لأنه كان يعمل بصمت ويسعى بصبر.
زويت له معارف التراث العربي فأحسن استعمالها في إخراج روائع من الكتب المحققة الطويلة التي ليس يسهل أن تخرج على هذه الصورة من الدقة والإتقان وحسن الإخراج لولا أن كان تقديم التراث في أحسن صورة هاجسًا استولى عليه فوهبه عمره وأفنى في سبيله حياته.