المؤرخ والأديب والباحث محمد بن أحمد بن عيسى العقيلي، علم ارتبط بسارية المجد، رفرف عالياً في سماء العطاء، وإلى قمة النجاح والإخلاص سجل كفاحه على قارعة كل طريق. إنها طرق لم تكن مفروشة بالورود. بدأ مسيرة الألف ميل في عصر لم يعرف فيه تقنية الاتصالات أو وسائل المواصلات الحديثة، لكنه بإرادته القوية تحدى ظروف الزمان، فتارة على دابته وأخرى ع لى قدميه قطع مسافات كل مكان بحثاً عن الحقيقة من أعماق التاريخ. قدم لنا عصارة جهده، أهدانا نتاج فكره.. من مكان لآخر رحل بهمته وعزيمته وصدق توكله على الله، وارتحلنا معه بأشواقنا وخيالاتنا نجوب الفيافي والغفار، نقطع الصحاري والبحار، نصعد الجبال وننزل الأودية والشعاب. جعلنا نعيش أحداثاً مرَّ عليها قرون، وزج بنا في عمقها وكأننا نعيشها مشاهد حية لا قصصاً واقعية أو روايات حقيقية، جمعها العقيلي من ألسن وشفاه الآباء والأجداد:
ما زال يد أب في التاريخ يكتبه حتى غدا اليوم في التاريخ مكتوبا
حقيقة، وحتى عهد قريب كنت أجهل أدق التفاصيل عن الكثير من الأحداث التي شهدتها منطقة جازان وعلى مرِّ العصور، وأقصد القطاع الجبلي خاصة، إذ لم يكن هناك مؤرخون يسجلون الأحداث وينقلون الوقائع والأخبار، إنما كانت تتناقل على الألسنة والشفاه من جيل لآخر قابلة للزيادة أو النقصان وبعضها ضاعت بموت كبار السن الذين يحفظون أدق تفاصيل التاريخ وأحداثه من دون أن تسجل في الكتب، ولهذا كان العقيلي صادقاً ومحقاً حين قال (إن الجيل الحاضر وبالأخص النشء الجديد لا يستغني عن تذكيره بالماضي القريب وتعريفه بالأحداث السالفة، وليس كالتاريخ واعظ ولا كحوادث الماضي مدرس. ففي ذلك العبرة والعظة ومقارنة ما كان من تلك العهود القاتمة بالحاضر المشرق والواقع الزاهر (وبضدها تتبين الأشياء). ولهذا قيض الله سبحانه وتعالى لهذا الوطن الرجال الأوفياء على مختلف الاهتمامات. وكان الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- المثال الأول في هذه النعمة التي نعيشها اليوم في ظل الوحدة الوطنية المتماسكة. وهناك الكثير من الرجال الذين سعوا جاهدين لحفظ تاريخ هذا الوطن وبعضاً من ملاحمه التي شهدها، ومن هؤلاء علمنا العقيلي الذي عرف الكثير من الأحداث التي شهدتها المنطقة قبل انضمامها تحت راية ابن سعود، وعرف العصر الزاهر وعايش مظاهر التنمية. وما زلنا وسنظل ندين له بالفضل بعد الله خاصة أبناء منطقة جازان في لملمة أوراق الماضي وأحداثه التي ربما كادت أن تندثر وتموت مع أصحابها:
ومن حوى التاريخ في صدره
أضاف أعماراً إلى عمره
وحين قدمت من جازان إلى الرياض قبل بضع سنوات وفي منزل أحد الأقارب بدأت معرفتي بالأستاذ محمد بن أحمد العقيلي عن طريق كتابه (الأدب الشعبي في الجنوب الجزء الثاني)، فكان مفاجأة لم أكن أتوقعها في أحد الأيام أن أجد هذه الأحداث وتلك الأشعار التي كنا نسمع بعضها في المجالس وأراها الآن أمامي في كتاب. تساءلت من هو محمد العقيلي؟ كنت أظن أنه ما زال على قيد الحياة حتى عهد قريب. وهنا أضع اللوم على أبناء منطقة جازان الذين لم يعَرِّفوا الأجيال بهذا الأديب والمؤرخ والباحث والمبدع، وأكاد أجزم أنه حتى هذه اللحظة لو سئل أحد أبناء الجيل الناشئ عن هذه الشخصية، فإنه سيقول أول مرة أسمع عنها. ولعل منا من قد سمع عن هذا العلم الذي ما زال يرفرف عالياً فوق هامات التاريخ. ولعل البعض الآخر قد قرأ لذاك القلم الذي سطر للأجيال حروفاً من حبر الكفاح وصاغ الكلمات من معاني النجاح.. نهل من معين الإبداع حتى ارتوى.. لكننا حتماً سنظل عطشى ولن نرتوي من إبداع هذا الرجل الذي سخر وقته وجهده وفكره لخدمة دينه ثم مليكه ووطنه وأمته. هؤلاء الذين سمعوا عنه أو قرؤوا له ربما لا يعرفون عنه الكثير. وهنا أضع بين يدي القارئ بعض ملامح وإنجازات هذه الشخصية الكبيرة. فإن أصبت فهو توفيق من الله وإن كان هناك خطأ فهو من نفسي والشيطان.
ولادته وتعليمه:
ولد محمد بن أحمد بن عيسى العقيلي عام 1336هـ بمحافظة صبيا بمنطقة جازان، ودرس على يد الشيخ محمد بن خميس بن جبير، ثم قرأ على يد والده مبادئ الفقه والنحو. وهذا دليل على أنه نشأ في أسرة علمية. ثم أكمل دراسته على يد الشيخ أحمد الأهدل بصبيا، مواصلاً بعد ذلك طلبه للعلم بحلقة الشيخ عقيل بن أحمد بمنطقة جازان.
أعماله ومناصبه:
1- عمل في فرع وزارة المالية بمنطقة جازان عام 1356هـ، وفي العام 1369هـ عُين مديراً لقسم الإيرادات بفرع وزارة المالية، وفي العام 1375هـ تم ترشيحه للعمل بدار الأيتام بمنطقة جازان وهي الدار الأولى التي أنشئت في المملكة، وهو الذي سعى -رحمه الله- لتأسيسها، كما عمل مديراً لمكتب العمل في المنطقة. اختير عضواً في المجلس البلدي والمجلس الإداري بمدينة جازان. أسس النادي الأدبي بجازان عام 1395هـ وعمل رئيساً له حتى عام 1400هـ. وفي العام 1408هـ أهدى لجامعة الملك سعود بالرياض مكتبته العامرة بنفائس الكتب. أما كتبه فهي أكثر من ثلاثين كتاباً ما بين أدبي وتاريخي وجغرافي، له قصيدة بعنوان (بطولة ديجور) ترجمت إلى الفرنسية ونشرت في جريدة (لوموند). ترأس شركة العقيلي وشركاه.
مؤلفاته:
أصدر الكثير من المؤلفات والدراسات في العديد من الاتجاهات العلمية ومنها:
1- في عام 1374هـ ديوانين السلطانين دراسة وتحليل وتحقيق.
2- في العام 1378هـ المخلاف السليماني في التاريخ السياسي والاجتماعي ثلاثة أجزاء.
3- في العام 1380هـ الشاعر الجيزاني ابن هتيمل دراسة وتحليل وتحقيق.
4- في العام 1385هـ الشاعر الجيزاني ابن شاجر دراسة وتحليل وتحقيق.
5- في العام 1389هـ:
أ - التصوف في تهامة دراسات.
ب - المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية عن منطقة جازان (جغرافي).
ج - الأدب الشعبي في الجنوب دراسات ونصوص.
6- وفي العام 1392هـ ديوان الأنغام المضيئة.
7- في العام 1399هـ الآثار التاريخية في منطقة جازان.
8- في العام 1400هـ أضواء على الأدب والأدباء في منطقة جازان.
9- في العام 1402هـ ديوان أفاويق الغمام.
10- في العام 1403هـ معجم اللهجات المحلية دراسات لغوية مقارنة.
11- في العام 1404هـ:
أ- سوق عكاظ في التاريخ.
ب - الشيخ محمد بن عبدالوهاب حياته العلمية والعملية.
تكريمه:
في العام 1394هـ أقامت جامعة الملك عبدالعزيز مؤتمر مكة الذي كُرِّم فيه الرواد السعوديون، وحصل هو على جائزة الميدالية الذهبية.
وفي العام نفسه حصل على ميدالية الريادة الذهبية من مؤتمر الأدباء السعوديين الأول.
شعره:
أبدع العقيلي في استخدام الكثير من أغراض الشعر حيث وظف خيالاته الواسعة وذوقه العام في تركيب المعاني واختيار الألفاظ، فنجده كتب العديد من القصائد الوطنية التي أكدت صدق انتمائه وولائه، وهنا يقول عن شعره الدكتور خالد ربيع الشافعي في هذا المجال إن الشاعر العقيلي تمحورت قصائده الوطنية في:
1- الإعجاب بشخصية الإمام الموحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله.
2- رثاء الملوك السعوديين وفيه بث العقيلي كثيراً من رؤاه الوطنية.
3- رصد مظاهر التنمية السعودية ومعطياتها.
إن الرحلات التي قام بها العقيلي بين محافظات منطقة جازان وقراها وسعت خياله فنجده تميز في وصف طبيعة المنطقة التي تنوعت صورها، ولم يكتف العقيلي بتلك الحدود بل تجاوزها إلى وصف الجزيرة العربية ومعالمها، وحين خرج من حدود وطنه إلى عالم أوروبا وإفريقيا نجده يسجل إبداعاً شعرياً من خلال تلك الرحلات التي قام بها إلى (ألمانيا) و(باريس) و(لندن) وشلالات نياجرا وجزر هاواي.
وفاته:
بناء على الأمر الصادر من الديوان الملكي تم نقل المؤرخ محمد بن أحمد العقيلي من مستشفى الملك فهد بجازان إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة عبر طائرة الإخلاء الطبي، وبعد معاناة من المرض انتقل إلى رحمة الله عن عمر ناهز 86 عاماً. وهنا اعتذر للقارئ الكريم لأني لم أجد بالتحديد تاريخ وفاته، لكن الشيء الذي وجدته هو مقال للدكتور سعد بن عبدالعزيز الرشيد في جريدة الشرق الأوسط العدد (8535) الصادر بتاريخ الخميس 29-10-1423هـ حيث كان من ضمن مقالته (رحل قبل ثلاثة أيام في السعودية المؤرخ والأديب محمد بن أحمد بن عيسى العقيلي).
تحية إعجاب:
هذه تحية إعجاب نقلها علامة الجزيرة العربية الأديب حمد الجاسر للمؤرخ العقيلي مشيداً بجهوده التي بذلها، وقد صاغها العلامة الجاسر وقدمها حروفاً ومعاني ظلت معلقة على صدر التاريخ كما بقي جهدهما. هذه التحية تصدرت كتاب الأدب الشعبي في الجنوب الجزء الثاني لمؤلفه العقيلي، حيث يقول العلامة الجاسر:
ما قرأت بحثاً أو كتاباً لأخي الأستاذ العقيلي مؤلف هذا الكتاب إلا وذكرت علامة العرب أبا محمد الهمداني صاحب المؤلفات المنوعة في كل جانب من جوانب المعرفة في زمنه.
أذكر الهمداني ودأبه في جمع ما يتعلق بتاريخ وطنه وجغرافيته وأدبه فأذكر للأستاذ العقيلي مؤلفاته عن تاريخ المخلاف السليماني وعن الأدب الشعبي. ولا أنسى دراساته عن شعراء ذلك المخلاف مثل عمارة الحكمي وابن هتيمل والجراح بن شاجر.
واذكر للهمداني مؤلفه العظيم (صفة جزيرة العرب) فيتبادر إلى ذهني جهد الأستاذ العقيلي في كتابه القيم عن جغرافية المخلاف وهو الجزء الأول من (المعجم الجغرافي الحديث للبلاد العربية السعودية).
وأعجب بما يتصف به الهمداني من صبر وجلد ودأب في سبيل مواصلة الدراسة ومعاناة التأليف في موضوعات ندر من تصدى لها كلها من أهل زمنه فأجد الأستاذ العقيلي سائراً على نهج ذلك العالم يؤلف مختلف التآليف عن النبات والتصوف واللهجات وغيرها.
لا أملك حينما أرى هذا الجهد المتواصل من أخي الباحث المجد إلا أن يغمرني الإعجاب بنشاطه، وتمتلئ نفسي إكباراً لعمله، ليس ذلك من قبيل الإطراء ولكنني وقد رأيت كثيراً من مؤلفي عصرنا وعلمائه وباحثيه يتجهون وجهات تختلف انحرافاً وبعداً عن حياة أمتنا وتراثها النافع ولا يكتفون بذلك بل يحاولون أو يحاول بعضهم وصم من يعني بالدراسات المتصلة بماضي الأمة بوصمة التأخر، ويصفون عمله بعدم الجدوى، وأقلهم تثريباً من يصف أصحاب المنهج الذي يسير عليه الأستاذ العقيلي من المؤلفين بأن عملهم لا يعدو الجمع، ولا يتصف بعمق الدراسة والتحليل، وما أحرى هؤلاء بقول الحطيئة:
اقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وما أحرى بالأستاذ العقيلي بأن يتلقى صنوف الإعجاب والتقدير لما يسديه من خدمة جلى لأمته وما أجدره بأن يجد العون، كل العون من القادرين عليه، فهو عون يوضع في أحسن موقع.
الرياض: حمد الجاسر.
خاتمة:
حين يرحل الراحلون فلا يبقى إلا الكبار بأعمالهم على مر العصور والأزمان، وإذا كان المؤرخ العقيلي قد رحل من على هذه الدنيا فقد خلف لنا كنوزاً تاريخية ومعاجم جغرافية وموروثات ثقافية وأدبية وهو حي يعيش بيننا بإبداعه الذي سطره بجهده في عصر مضى لم تتوفر فيه سبل البحث والطباعة والنشر الميسرة كما هو الحال في واقعنا هذه الأيام إلا أنها لم تكن عائقاً له ولأمثاله ممن قهروا المصاعب وتحدوا المتاعب، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. وحتى نرد الدين لهذا الرجل وأمثاله فما علينا إلا أن نحيي ذكره بين الأجيال وتبقى أعماله هي الموروث الوحيد الذي تتناقله الأجيال وبها تتذكره.
توقيع:
يقول الرافعي -رحمه الله- إذا لم تزد شيئاً على الدنيا كنت زائداً عليها.
-جازان