أحيانا يعيينا الفهم حين نجد أمامنا تجربة تحولية مهمة دون أصداء، وهو ما يتناقض مع الإشارات المثيرة التي تتبناها وسائط الإعلام الورقية والإلكترونية عند رصد خبر هامشي يتصل بمداخلة في محاضرة أو لغط حول تليد ومعاصرة..
كنا نتمنى أن ترصد التحولات المعرفية لدى بعض الرموز الفكرية المحلية والعربية ومن أبرزها ما تمثله رحلة الدكتور حمد بن عبد الكريم المرزوقي الفكرية الممتدة نصف قرن حافلاً بالحضور والحوار، فعلا وتفاعلا، وجذباً وتجاذباً، وهدوءاً قليلا وجدلاً كثيراً من لدن «أوراقه الوطنية» وانتهاءً بتجربتيه المختلفتين اللتين وثقهما كتاباه (أفي الله شك) و(من القرآن إلى البرهان).
والمفارقة أن كتاب «الأوراق» استقبل باحتفاء قل أن تحظى به كتب مماثلة لمماثلين، وهو كتاب استمد فيه المؤلف رؤيته التحليلية من النظرية الجدلية، وكان أقرب إلى التوجهات العروبية التي أرّق مقتنعيها-إذ ذاك- الحيف الأميركي اليميني؛ فوجدوا ضالتهم مؤقتاً في تعاطف القوى الأممية مع القضية الفلسطينية وهي القضية المفصلية في الحراك السياسي والثقافي آنذاك.
ولو كتب أبو نادر سيرته لعرفنا أنه لم يكتف بالتنظير المجرد؛ فقد كانت له محاولة جادة صادقة للانضمام لصفوف الفدائيين الفلسطينيين حين كان شاباً صغيراً ممتلئاً بشعارات التحرير.
ولعل اختياره لاسم (طفول العبدالعزيز) اسماً رمزياً وقَّع به زمنا، يأتي ضمن معطيات المرحلة المرتبطة باغتصاب فلسطين من جانب،ووجود المستعمر في بعض البلاد العربية من جانب ثان، عدا محاولة الوصول إلى حل لمشكلات التخلف العربي في إطار الخطاب النهضوي السائد حينها.
كانت بداية الدكتور المرزوقي من «الجزيرة» في حدود عام 1964م ولم يبلغ العشرين من عمره حين كتب سلسلة مقالات نعى فيها غياب الأمة،وبحث عن عوامل الخروج التي ظل يتلمسها،و بدت جلية في مؤلفاته (كيلا تختلط الأوراق) و(أزمة الخطاب السياسي) و(أزمة الخليج) و(الجنون العاقل) و(سفر الخروج) و(إشكالات فكرية) وسواها، لكن الأسئلة امتدت بأسئلة، والحيرة تلتها حيرات. ثم جاء التحول الأهم خلال إقامته في بيروت وتفرغه للبحث والتأمل؛ حيث وجد في الإيمان العميق ملاذه من القلق المعرفي، ووصل - بطمأنينة - إلى أن النصر مرتبط بالإيمان بالله وحده بما يعنيه ذلك من إقامة العدل ورفض الظلم وتمثل رسالة الإسلام في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية على صعد الأفراد والمجتمع والدولة.
هكذا وجد المرزوقي مفاتح الإجابات التي كانت مستغلقة، ورأى في الحضارة التي أزاحت أقوى إمبراطوريتين -خلال عقدين زمنيين- الضوء الذي يمكن الاستهداء به.
ويطل استفهام البداية؛ فكيف تمر تجربة مثل هذه دون أن تلقى واقفا أو متوقفا مع أننا نحفل بكلمات طائشة أحيانا يستهلكنا الحوار (المدور) حولها وإذا نحن في خاتمتها مستنزفون بلا مضمون.
أبو نادر يعيش بعيدا عن الأضواء، زاهدا في التواصل الإعلامي والمنبري، معنيا بقراءاته ومشروعات كتاباته التي بقي منها سيرته الخصبة بدءا من مراحل الدراسة في عنيزة والطائف ومكة والولايات المتحدة، ووظائفه الأكاديمية والإدارية، مرورا باهتماماته المعرفية وتمكنه من الرواية المحققة في شفاهيات التاريخ والقبائل والأنساب والشعر العامي، وليس انتهاء بمتابعاته السياسية وتحليلاته العميقة لمجريات الواقع العربي على وجه الخصوص.
ستكون زاوية إمضاء في مرمى انتقاد «أبي نادر» الذي لم يعد مسكونا بهاجس الحضور، لكنها كلمات عابرة لا بد منها ليس من أجله بل من أجل التاريخ.
المرحلية تطور.