قبل رحيل الأديب الشاعر محمد الماغوط (1934م - 2006م) ظل يهجس كثيراً في النهايات المحتملة على الصعيد العام، والخاص فهو الذي تنبأ ببعض النهايات الموجعة للعرب في صولاتهم وجولاتهم البائسة على صهوات خيول الاتفاقيات التي لا تزيد إلا من خيالهم وهياجهم المسعور، والتشدق المقزز بقرب النصر بعد سلام ألا شجعان، وعلى المستوى الخاص فهو الذي قال: (جئت وحيداً وسأرحل وحيداً ولن تفارقني أحزاني).
المدن لدى الشاعر محمد الماغوط ظلت على الحياد، وإن كانت قد أرقته الأرض باعتبارها أم الجذور، ومهد لمنابتنا الأولى، فلم يشأ أن يتركها تموت، إذ ظل ينافح عنها في أعمال شعرية كثيرة، إلا أن العمل المسرحي على وجه التحديد هو الذي هجس فيه الشاعر المغاوط وصيره إلى مفردة خطاب إنساني يذود عن الوطن ويدافع عنه، فأومأ في أعماله (غربة) ، و(شقائق النعمان)، و(ضيعة تشرين)، و(وادي المسك)، و(الحدود)، و(التقرير) وأعمال أخرى عني الكاتب الماغوط فيها بشؤون الوطن الأم، والأرض التي نبت فيها، ليحرك في العالم العربي هواجس الحذر والخوف على مآل البلاد.
مدائن الماغوط لا تذهب بعيداً عن الوطن السوري، فهو الذي عايشه، وذاق منه صنوف وألوان من حلاوة المعشر، ومرارة الجفاء، لكنه أبقى مجد الوطن عالياً، فمنذ أن خرج من قريته (سلمية) وعاش في (حماة)، ثم ارتحل إلى العاصمة (دمشق) وهو يحمل بين كتفيه أضخم حدبة عرفت في التاريخ هي حدبة الحزن، والمرارة والفقد.. فها هو يسرف في وصفها ليؤسس للشعر جنونه الجديد، المتمثل في (قصيدة النثر) وشيوع مصطلحها الذي أذهل العالم، وقيام جماعة مجلة شعر، وتأسيس مدرسة أدبية حديثة مميزة حاولت أن تنتصر للذائقة وتؤرخ لها.
منذ أن قدم الماغوط من (حماة) وقبلها (سلمية) لم يشأ أن ينسلخ من مكونه البسيط، فلم يكون مرفها أو يانعاً أو متمادياً في شهرة الكسب إنما ظل على حياد المدن فسكن في أعماق دمشق في الغرف التي كان يصفها دائماً بأنها الغرف الواطئة على نحو غرف باب توما، وأبو رمانة، وعين الكرش، فتنقل بين الحواري، وجلس على تلك المقاهي ليكتب أجمل ما طالعه العالم العربي فظل الماغوط مواظباً على هذا النهج حتى وفاته، فالقهوة أثيرة لديه، ولها مدلولات عميقة، وأثر بالغ في الذات، والذائقة: (طفولتي بعيدة، وكهولتي بليدة وطني بعيد، ومنفاي بعيد. أيها السائح أعطني منظارك المقرب.. علَّني ألمح يدا أو محرمة من هذا الكون تومئ إليَّ.. صورني وأنا أبكي، وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق.. وأكتب على قفا الصورة.. هذا شاعر من الشرق)..
بين مجلة شعر، ومسرح الشام، والسينما السورية بات الماغوط مولعاً في اقتفاء أثر الجمال، والحقيقة، زاهداً في كل شيء يمكن أن يدجنه أو يحوره أو يعبث في جماليات تكوينه الأدبي، والإبداعي، ليظل هو الشاعر المميز، والكاتب المسرحي القوي، والروائي الذي تنهل الذائقة من ثنايا فنه وجمال إبداعه على نحو عمله الروائي الذائع الصيت «الأرجوحة» حيث نراه وقد بات على شفق الخلود، وفضاء البوح الذي لا يقبل التدجين أو الاحتواء.
ظل الماغوط متمرداً في شعره، وقصصه، وكتاباته، بل وحتى في مقارعته الخصوم في تلك الأجزاء الغالية على ذاته من دمشق القديمة، إذ ظل ينافح عنها، ويوقع جل أعماله الذائعة الصيت وهو يقبع في مقاهيها ويسامر أهلها، ويشاطرهم البوح والفاقة والعوز، وحب الأرض التي تسكنه دائماً.
الماغوط سيرة جميلة للإنسان الذي لم يشأ أن يتحول لمجرد شهرة أصابته، إنما ظل وفياً للوعي الذي يشعر أنه خلق من أجله حتى فارق الحياة وهو في اشد العناء لأنه لم يكتب له أن يقول كل ما لديه .. فهاهو يلملم أوراقه، ويغادر الدنيا ولم يكمل بعد كتابه الساخر عن مآل حياتنا، ووعينا الذي عبثت فيه أنواء القبح، ومسلمات المصالحة، والمصافحة، ومراذل المعاهدات التي شلت قوى الوعي لدينا.
مدن الأديب الراحل (الماغوط) ستبقى، وفنه سيخلد، وقريته (سلمية) ستذكره دائماً، لأنه بالفعل ظاهرة وعي لا تنسى، ولأنه أبن من أبنائها لم يشأ أن يتخلى عن كل ما يمتلكه من حب للوطن الكبير وإن تعددت مدنه، وتناثرت جغرافيته، ومزقته الحدود.