Culture Magazine Thursday  21/05/2009 G Issue 284
قراءات
الخميس 26 ,جمادى الاولى 1430   العدد  284
عبد الله مناع: بعض الأيام.. بعض الليالي
محمد حمد البشيت

 

الإنسان بالحياة مخير وليس مسيراً،كما يقال ولو كانت حياته مسيرة لكانت ترسف بالقيود التي تكبله وتحد من تحركاته وليس هناك ثمة استطاعة أن يتحرك قيد أنملة،طالما هي مبرمجة ومحددة ومرسومة له فلا يمكن بأية حال تجاوزها،مثبطة عزائمه عن كل ما يصبوا إليه من رقي وسعادة ينشدها في مفازات الحياة،ما بين الأدب والصحافة.

فالحياة رحلة عابرة من المهد إلى اللحد،فالإنسان حين أتي لهذه الدنيا أتي (باكيا) حين ولدته أمه،ولم يأت (ضاحكا) مستبشرا بمقدمه،وكأنه يقرأ طالعه أنه مقبل على حياة ملؤها الأحاجي والألغاز والمخيبات والانتصارات،ولكن الله منحه ميزة (العقل) ليكون له ميزة واتزان،وبمثابة (الشفرة) لفك أسرار هذه الطلاسم إن أحسن هو التأمل والتفكر والتدبر في تشكيل(كينونة) حياته.

والحياة (ضنينة) بالعطاء ما لم يقدم لها من جهدا دؤوب ومثابرة وصبر على مكابدة الصعاب،حتى يتم الظفر في المبتغى المنشود من الحياة،في كافة العلوم المهنية،والتي أعتقد جازما،أن علوم الآداب والصحافة لا تقل شأن عن بقية العلوم المهنية المتعارف عليها،وما صبر المرء ومثابرته بتحقق رغباته،إلا بمثابة (قربان) فداء نحو حياة أسلمت له مقاليد مفتاح مغاليقها،أسلمته طائعة غير ممانعة في كشف مخبوء ها من كنوز(العلم) المكتنزة ما بين المعرفة والتعلم من (العلم) فحين يلج الإنسان لدراسة علم من العلوم ويندهش ويتفاعل مع مكونات المعرفة الحقيقية،فقد بدأت الصورة واضحة وضاءة في معالم مباحثه من أفكار وتذكار لأشياء لم تخطر له على بال،فكانت الدهشة هي الباعث الحقيقي نحو المعرفة،وقيل: بداية الدهشة المعرفة.

فقد دهشت وعرفت من قراءاتي،لأشياء كثيرة زودتني بها المطالعة فكانت هي زادي نحو ثراء معرفي عن حياة الأطباء الذين هاجروا هجرة اختيارية من عالم الطب إلى عالم الأدب،وأقرب مثال لنا? الدكتور يوسف إدريس،والدكتور إبراهيم ناجي.. وغيرهم.

ولعل صاحب كتاب (بعض الأيام.. بعض الليالي) الصادر حديثا وقد أهداني(مؤلفه) نسخة منه وبإهداء جميل،هو من ضمن المنظومة التي غادرت عياداتها نحو هجرة أبدية،نحو عالم أكثر سعة ورحابة في عالم الأدب!

الدكتور عبد الله مناع وهو المتخصص بطب الأسنان،ومزاولته لمهنة الطب لبضع سنوات،لم تروق له هذه المهنة ولم يرغب أن يكون مسيرا وأسيرا لها،بحكم العمل (الوظيفي) طيلة أيام حياته،فقد كانت رغبته وعشقه العمل الصحفي،منذ بداية حياته وهو يافعا،حيث صحيفة (الرائد) مرورا بالمدينة والبلاد ومن ثم بمجلته (أقرأ) التي أرسى دعائمها ونالت من الشهرة ما لم تنله مجلة سعودية، ولكن ذات (صباح) غادرها وما أكثرها الصباحيات والمسائيات المزعجة التي كان يتلقاها ما بين الفصل والوصل،وهو الفصل التعسفي والوصل المفاجئ لإعادته لمجلة (اقرأ) ولكنه لم يعد إليها في المرة الأخيرة،فقد طويت صفحته أو هو طواها،وإن كنت أرجح الأولى،وتألمت حين سماعي خبر مغادرته تلاها بعد سنوات العمل رئيسا لتحرير مجلة (الاعلام والاتصال) الصادرة عن وزارة الاعلام آنذاك،ولم يستمر بها لفترة طويلة......؟!!

في كتابه الممتع (بعض الأيام بعض الليالي) هو قصة من أطراف حياة ابن الشاطئ،وقد رواها لنا بأسلوب أخاذ يغري قارئها بالمتابعة،فهو يتذكر ويذكر كيف كانت حياته بعد وفاة والده وهو صغيرا عاش في كنف أمه السيدة الفاضلة التي دأبت على تدبير سبل معيشته وسكنه وتعليمه،رغم شح المورد المالي،وعدم توفر المسكن الخاص،فوالده عاش ومات فقيرا،وعن عائلته يذكر أدق التفاصيل،وينقل لنا صورة عن الحياة الاجتماعية في حارة البحر وحارة المظلوم وحارة الشام ثم بلمحة وجيزة يصف لنا وكلاء الحجاج،وكيف كانت عليه حال الميناء عند وصول الحجاج لجدة،وحتى المقاهي داخل الحارات يستنطقها بأسمائها،وكأنه المغرم بها،عرفته وهو يصف مقاهي الإسكندرية بالتفصيل حينما ذهب لبعثته الدراسية لدراسة الطب،وربما كان تعلقه بالمقاهي مثلما هي الحال عليه عند الأدباء نجيب محفوظ والحكيم،بل شلة (الحرافيش) ما بين مقاهي شبرد والفيشاوي وقربي.

محطات كثيرة تستوقفني هنا وأود الكتابة عنها،ولكنني لا أريد أن أفسد متعة اقتناء الكتاب والاستمتاع بتفاصيله الدقيقة والمدعمة بالصور عن رجال الأدب والصحافة،وسيجد الباحثون المعلومة الصحفية الموثقة.

الكاتب الصحفي عبد الله مناع،سبق كتابه هذا عدة كتب منها (اللمسات) ورواية (على قمم الجبال) و(الطرف الآخر) و(إمبراطور النغم) عن الموسيقار محمد عبد الوهاب،وكتابه الحالي الذي نتحدث عنه.

نعم هو المقل بكتاباته للصحافة ولكنه حينما يكتب يشد القارئ إليه يتمتع بأسلوب صحفي أخاذ،ينتقي الكلمة الأنيقة والرشيقة وما بين الأناقة والرشاقة تجد أعذب الكلمات،كالجواهرجي الذي يصوغ لنا أجمل مصاغ من الذهب والألماس الغالي الثمن،ومع ذلك وهو الكاتب والصحفي لم يسلم من الأذى والحواجز والعراقيل والأكمنة التي وضعت بطريقه في رحلته مع الصحافة والمملوءة بالمرارة والأسى،ففي ذكريات الأيام المحرقة ما ينوء بها كاهله، ومن المكائد والدسائس له ما كانت به الليالي مرهقة،ولعله أراد أن يستريح ويقتصر على الكتابة للصحافة،وهو أيضا صاحب دار (المرسى للنشر والتوزيع والدعاية والإعلان) وقلت في نفسي أنه بدار المرسى قد استقر بمرساته،وأعتقد أن هذا هو المكان الذي يليق به،أفضل بكثير من عملية الدفع والمدافعة والمماحكة داخل بعض المؤسسات الصحفية،هنا محطته الأولى وانطلاقته نحو عالم النشر،والذي آمل ألا تكون انطلاقة متاعب كما حصل له في عالم الصحافة... والذي شبهت حالته أيامها في (وأبور) محمد عبد الوهاب،في أغنيته الرائعة.

يأو أبور قلي رابح على فين

عمال تجري بحري وقبلي

تنزل وادي تطلع كبري.

أيها العذب كفاية جري،ولتسترح لكي نهنأ بك بدار المرسى،ونحضر (سبتيتك) الجميلة والتي تضم جمعا لفيفا من المثقفين،وكاتب هذه السطور واحد منهم،فأنت الوفي لأصدقائك ومعارفك وتلامذتك،وإذا كان الشيء بالشي يذكر فإنني لا أنسى بعد خروجك من مجلة أقرأ وقد أتيت إليك بدارك أو هي دار أخيك لا أعرف،أتيت إليك معزيا في وفاة والدتكم رحمها الله،وقد أتيت متأخرا ولم يكن بمضافة الرجال سواك وأخيك وحينما دخلت المضافة وعزيتكما لم تعرفني للسنوات الطوال التي باعدت بيننا وكنت من قبل مندوبا لمجلة اقرأ بحائل،فحينما جلسنا معا وأدركت أنك لم تعرفني بعدها قدمت نفسي إليك وضحكت وأخذتني بالأحضان وأخذت بيدي لصدر المضافة معتذرا عن النسيان الطويل،وكانت هذه آخر مقابلة بيننا ومضت سنوات لكي التقي بك بمناسبة أخرى،وقد زودتني برقم هاتفك ودعوتني ل(سبتيتك) ومنها توالت اللقاءات وما دعاني عن الكتابة هو كتابك المفعم بالذكريات الجميلة،التي كانت غافية وخافية،وقد أيقظتها بعد سبات طويل ليس عندك فحسب بل عند قراء كانوا يتابعون بشغف ما كان بمقالاتك ما بين الرائد والبلاد وثالثة الأثافي مجلة اقرأ الرصينة،والتي لم تنل المجلة بكل أسف من الحصانة الصحفية،ما يخول لها استمرارية رئاستكم لها،ولا أريد أن أسترسل بالفواجع والمواجع،وفي (بعض الأيام بعض الليالي) يجد القارئ المعلومة الموثقة فيما قد رواه بالإفصاح عن تلك الجراح.

جدة - فاكس 6982218

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة