الثقافية - القاهرة - أحمد عزمي:
الدكتور علي فهمي خشيم واحد من أبرز الرموز الفكرية على الساحتين الليبية والعربية، فهو مثقف أكاديمي موسوعي، امتدت مؤلفاته، لتغطي مجالات الفلسفة والتاريخ والنقد الأدبي والترجمة والإبداع الروائي والشعري، وهو كاتب غزير الإنتاج، من أبرز مؤلفاته (اللاتينية العربية) و(رحلة الكلمات) و(الحركة والسكون) و(نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى). أثناء زيارته إلى القاهرة كان هذا الحوار.
تعددت اهتماماتك ما بين الفلسفة والتاريخ والنقد والإبداع.. كيف توفق بين هذه الاتجاهات؟
- استطعت الغوص في تلك المجالات، والتعامل معها من خلال تنظيم العمل، ومتابعة القضية موضع البحث والدراسة من جوانبها كافة، ووضع برنامج زمني للانتهاء من العمل .
أين تجد نفسك أكثر؟
- أجد نفسي في كل المجالات التي أكتب فيها، حيث لكل مجال لذته ومتعته وفائدته، وشخصياً لا أكتب في أي موضوع إلا عندما أقرأ فيه، وأكون ملماً بجميع جوانبه، وأن يكون مثيراً للاهتمام ومفيداً ونافعاً، وليس لي فقط، وإنما للرسالة التي نذرت لها نفسي، وهي خدمة وطني.
لماذا تحولت إلى دراسة التاريخ وعلوم اللغة والفلسفة بعد أن كانت بدايتك مع الفكر الإسلامي؟
- بدأت بدراسة الفكر الإسلامي، فلما وجدت أنني لن أقدم جديداً، اتجه اهتمامي إلى موضوعات قد تكون أبعد ما تكون عن هذا المجال، وهي دراسة التاريخ وإجلاء الغبش عن المجهول فيه، فلما أنهيت بحثي فيه اتجهت إلى دراسة ما اسميها اللغات العروبية القديمة في الوطن العرب، قبل الإسلام، في بلاد الرافدين، والشام، ووادي النيل، والشمال الأفريقي، لأجد بعد ذلك وحدة الجذور الأولى كما يسمى في اللغات. وهي في تصوري عبارة عن لهجات، تنتهي إلى ما أسميه اللغة العروبية الأولى، وتشمل على سبيل المثال، البابلية والأكادية والآسيوية والكنعانية والمصرية القديمة والسبئية واللوبية والعربية العدنانية التي نتكلمها الآن، وهي لهجة من اللهجات، نمت وتطورت، حتى وصلت إلى الصورة الموجودة عليها الآن.
لماذا استمرت العربية الفصحى وانقرضت اللغات الأخرى؟
- هناك عوامل كثيرة وراء ازدهار العربية، من أهمها أنها تحمل رسالة الإسلام وصلبه القرآن الكريم.
لماذا اتجهت إلى دراسة اللغات المقارنة العربية واللاتينية؟
- لقد تكشفت لي الكثير من الحقائق، وانصرف اهتمامي إلى ما أسميه اللغات المقارنة، وبالذات العربية واللغات الأوروبية، وعلى الخصوص اللاتينية، باعتبارها منبعاً لعدد من اللغات الأوروبية الحديثة.
والعربية أقدم لغة على وجه الأرض، وفي الوقت نفسه هي لغة حديثة وحية، يتكلم بها نحو 300 مليون إنسان، وتساير العصر في مختلف المعارف، وقد تبين لي أن ما يسمى باللغات الأوروبية وأقدمها اليونانية واللاتينية كانت عالة على اللغات العروبية، ويظهر هذا بالمقارنة بالعربية.
والقاعدة تقول إن اللاحق يأخذ عن السابق، وهذا ما حدث في أخذ الأوروبيات عن العروبيات، وبوضوح كامل، بنيته في كتابي (اللاتينية عربية) و(رحلة الكلمات) وبقية الدراسات، طبعاً لا أكتب هذا الكلام من باب الإثارة، وإنما نتيجة بحث طويل شاق، وأحاديثي كلها ليست قائمة على الحدس والتخمين، وإنما اعتمد المصادر والمعاجم وما ينشر من بحوث علمية.
لكن هناك ملاحظات بشأن النتائج التي ذكرتها؟
- كثير من الناس يرون أنني أركب شططاً في هذا، مدفوعاً بحماستي القومية، وتعصبي للعربية، وقالوا إنني أحرف الكلام عن مواضعه، وهذا غير صحيح، فأنا أستاذ للفلسفة أولاً وأخيراً، ولا يمكن أن أعبث بتاريخي العلمي والأكاديمي، لأحاول إثارة الاهتمام بشخصي المتواضع، وإنما أريد من هذه الدراسات أن أستثير همم العلماء، وكثير منهم أعلم مني وأدرى وأقدر، ولكنهم لأسباب كثيرة انصرفوا عن هذا الموضوع الخطير.
وكثير من الناس يرون في بحوثي زاوية، قد تكون مظلمة، باعتباري غير متخصص، وهذا غير صحيح بإطلاق، فبحوثي ودراساتي ذات أثر فكري وقومي فعلي وفاعل، لأن العربية تتعرض من الداخل والخارج لأعتى أنواع الهجوم، وأسخف أنواع الاتهامات، وأسوأ برامج الإساءة إليها، لأسباب حضارية وسياسية، وعلينا أن نبين عظمتها إلى جانب روعتها وإحاطتها، ونقدم خدمة لهذه الأمة التي لم يبق من وحدتها للأسف سوى هذه اللغة.
في رأيك.. لماذا اختفى المفكر الموسوعي من حياتنا الثقافية؟
- اختفاء المثقف الموسوعي ظاهرة عالمية، وليست خاصة بالأمة العربية، نتيجة القول الخاطئ إن التخصص أنفع، لأنه أكثر عمقاً، وهذا في تصوري غير صحيح، لأن التخصص الضيق يؤدي إلى انغلاق صاحبه انغلاقاً تاماً، يسد عليه منافذ النظر إلى جوانب الحياة المتعددة، ففي موضوع اللغة- مثلاً- لا بد لمن يدرس تاريخ اللغات ومقارنتها من أن يعرف أشياء كثيرة عن التاريخ وهجرات الشعوب من مكان لآخر، والجغرافيا وصلة البلاد ببعضها البعض، بل والجيولوجيا وتطورات اليابسة على الأرض في عصور مختلفة، ولا بد أن يعرف شيئاً عن علم الاجتماع، وأن يحيط بعلوم تتصل بالنبات والحيوان ومظاهر الطبيعة؛ لأن اللغة هي التعبير عن هذه الأشياء، كما أن يمكن أن يعرف أشياء كثيرة عن اللهجات وظروف البيئة: جبلية وبحرية ونهرية وصحراوية.. إلخ، لكي يدرك ما أسميه بروح الكلمة المعبرة عن بيئة ما، في ظروف ما، في زمن ما، وصلتها بعد ذلك ببقية الألفاظ في اللغات الأخرى.
* كان توفيق الحكيم يقول إن المتخصص نصف إنسان، فكيف ترى الأمر؟
- نعم.. المتخصص أدى إلى انقطاع الصلة بين العلوم المختلفة، وأصبح بعض العلماء لا يفهمون البعض الآخر، نتيجة ضيق الأفق، مع عمق معرفتهم بالموضوع الذي يدرسونه، الآن هناك ردة في أوروبا وأمريكا إلى أن يكون الكاتب موسوعياً وفي الوقت نفسه متخصصاً، وهناك قول مأثور للعقاد نقله عن الانجليزية يقول: (إن المثقف هو الذي يعرف شيئاً عن كل شيء، ويعرف كل شيء عن شيء).
هناك تياران يسيطران على الثقافة العربية: الأول يطالب بإحياء التراث، والثاني يرفع شعارات الحداثة.. فما الحل؟
- التيارات على خطأ، ليس التراث كله بديعاً، وليس كل ما هو حداثي رائعاً، فالارتباط بالجذور الأولى لا يعني أن أكون عبداً للتراث، ومواكبة الحاضر لا تعني أن أكون عبداً للفكر الأجنبي.
هل لدينا الجاهزية للحوار مع الآخر؟
- إننا نظر إلى أوروبا بعين الإكبار، وهي الآن تنحدر يوماً بعد يوم، وعندما أتجول في أسواق لندن أجدها مليئة بالبضائع الصينية واليابانية، وعلينا أن تكون لدينا الثقة بأنفسنا وتراثنا، فنحن لسنا أقل من الآخرين، وعلينا الاعتزاز بما نملكه من تراث، ونتحاور من موقع الند للند.
هل لديك خطة لتيسير اللغة العربية؟
- لا بد من البحث عن طريقة لتيسير اللغة العربية التي أصيبت بالضرر البالغ من قبل النحاة الذين أصبحوا يركزون على القواعد، وتركوا ما يسمى بجوهر اللغة، وصلة هذه اللغة بالحياة، وإذا انفصلت اللغة عن الحياة ماتت، لأنها تعبر عن الإنسان الذي يجب أن يكون على صلة بالحياة.