شغل الموت الإنسان منذ بدء تاريخ البشرية، فالرغبة في اكتشاف ماهيته وكنهه ظلت هاجسا سيطر على الإنسان ولا زال، فهو الظاهرة الوحيدة التي فرضت قداستها واستمرت أحاسيسها الروحية تتجدد، وقد كان للموت دور كبير في تخليد آثار الأمم السابقة فالاهتمام بمقابر الإنسان القديم شواهد حية على تلك الحضارات، ولذا ظلت أسئلة الموت والحياة تبحث عن إجابة مقنعة حتى يومنا هذا، ولا يجد إلا إجابة واحدة عن حقيقة الموت وهي الخلود، تلك الفكرة التي بدأت مع جلجامش ذلك الرجل الأسطورة القوي الذي لا يهاب أحدا حركه هاجس الموت فخرج في رحلة طويلة باحثا عن الخلود، وقد أثرت تلك الأسطورة في كثير من الفلاسفة والأدباء والشعراء في تناولهم لفكرة الموت في أعمالهم، فبعد صدور ملحمة جلجامش في نسخها المترجمة عن اللغة الآكدية إلى لغات العالم المختلفة بدأت ثيمة الموت تظهر في الأدب بأشكال مختلفة، فالإنسان بطبعه يحب الخلود وفكرة الموت مربكة ومقلقة للكثير منّا لكنها الحقيقة التي اقتنع الإنسان بها وبات يتوجس منها في كل لحظاته، ويرى فرويد (أننا في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت) وذلك لأن المرء يخشى فكرة الانفصال عن الوجود، من هنا جاء الإبداع كوسيلة كبرى لمواجهة الموت أو بعبارة أخرى: (الخلود عبر الكتابة) فعندما يموت الإنسان فهو يخسر حياته لكن لن تفنى أفكاره وشخوصه التي ستخلد اسمه، يقول ماركيز: (إنّني أكتب كي يزيد الناس من حبهم لي) فجاء الموت على رغم قلق الكتاب منه محرضا لبعضهم على العمل والإبداع، وما أنتجه شعراء العرب في هذا الموضوع تصعب الإحاطة به، فمنذ العصر الجاهلي كان الموت محور اهتمام الشعراء كطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى الذي أشار إلى سأمه من الحياة إلى حد تمني الموت في معلقته الشهيرة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
هذه النظرة إلى الموت قد تشير إلى الرغبة في التجدد والخلود وليس الفناء، وما مقدّمات القصائد الجاهلية إلا دليل واضح على رغبة الشعراء في إحياء الأماكن وتخليدها، فالوقوف على ديار المحبوبة وتذكرها خلق آخر لهذا المكان واستمرار وجوده، فالأطلال التي ورد ذكرها في مطالع القصائد الجاهلية هي في الحقيقة أماكن ميتة ولكن الشاعر يتعمد إحياءها لتخليدها من خلال النص الذي بعث فيها حياة أخرى، وما قصائد الرثاء التي سطرها الشعراء في الأموات إلا عملية بعث تبقي أمجادهم وبطولاتهم تحقيقا لفكرة الخلود التي يبحث عنها الإنسان، ومن يطلّع على الإرث الأدبي الذي خلفه العرب والمسلمون يقف متعجبا أمام عقل هؤلاء المبدعين الذين خلدوا تاريخهم بتسجيل أيامهم وأحزانهم وأفراحهم بوعي منهم بأن الأدب وسيلة الخلود، لنصل إلى (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري الذي ركز على فكرة الموت وكانت له فلسفته الخاصة به في نظرته التشاؤمية لثنائية الحياة والموت، فعبّر عن مواقفه من الموت والحياة بقلق واضطراب:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
تعب كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد
إنّ حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
فيناقش فكرة الفناء والخلود باعتبار الدنيا دار مرور للآخرة مقر الخلود الأبدي.
واختلفت العقول وهي تبحث في سر الموت وما بعده، وولدت فلسفات كاملة تدرس هذه الظاهرة، وشكلت قضية جوهرية في أعمال الكاتب انعكست على سلوك شخصياته وأفكارها، ويقول فرويد في ذلك: (وكان طبيعيا نتيجة لموقفنا من الموت أن نجهد لتعويض أنفسنا عن هذا الإجداب في الحياة، بأن نصوغ عالما من الأدب، سواء في الرواية أو المسرح يصور فيه شخصيات تعيش الحياة ولا تخشى الموت، وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت، بل وتختاره لغيرها، وفي الأدب وحده يمكن أن نواجه الموت بأن ندخل كل تجارب الحياة ونخرج منها سالمين) أي أنّ تفكير الكاتب في الموت ينعكس على شخصياته التي تواجه الموت بدلا منه، وقد تكون دلالة على سيطرة قوى الشر وهيمنة الظلم في ظل غياب العدل والحرية وقيم المساواة في عالم مليء بالقهر والاضطهاد، عبر عنها الكاتب من خلال فكرة الموت التي ظهرت في عدة روائع أدبية عربية وعالمية شكّل الموت فيها المحور الرئيس الذي تنشأ منه كما يقول غسان السيد: (كل الإشكاليات التي تعصف بشخصياتهم وتجعلهم قلقين لا يركنون إلى قرار. وقد يقودهم ذلك إلى الشعور بعبثية الحياة، لأن العبث نتيجة طبيعية للتفكير والتأمل في الوضع الإنساني)، لذا فإنّ مقاربة ثيمة الموت كما وردت في معظم الروايات السعودية، يثير تساؤلا حول العلاقة الجدلية بين الموت والكتابة، فقد تكون الكتابة مكافئا للحياة لأن الصمت عن السرد مرادف للموت، والكتابة تعبير عن الحياة، من هنا كانت فكرة الموت في بعضها بطلا أساسيا يأتي فيها خفيّا وظاهرا، مكشوفا ومستترا، يقينا وشكا، وتبدو بنية الموت - الحياة تستحوذ بشكل ما على خطاب السرد عند بعض الروائيين، فتظهر أشكال متنوعة للموت: فهناك الموت الطبيعي (الجسدي) وهناك الموت المعنوي (الرمزي)، وتختلف طريقة الكاتب في تمثيل أنماطه المختلفة على مستوى المفردة اللغوية، وعلى مستوى الشخصية، وعلى مستوى الحدث.
والرواية السعودية جزء من الرواية العربية يتقاسم كتابها الهم نفسه وإشكاليات الحياة المختلفة التي تشكل ضغوطا على الكاتب ينعكس أثرها في أدبه، وكان الموت أكثر الموضوعات التي حفلت بها الرواية السعودية، والمتابع لمراحل الرواية السعودية يلحظ ظهور قضية الموت في رواية التسعينيات وما تلاها بشكل واضح، وليس معنى ذلك أن موضوع الموت لم يكن موجودا في مرحلة البدايات ومرحلة التجديد لكنه لم يظهر فيها إلا قليلا وبشكل تمثل في معناه السلبي كعجز البطل وفشله في حياته، واستسلامه للواقع، كما ظهر على سبيل المثال في رواية (سمراء الحجازية) لعبد السلام هاشم، و(بسمة من بحيرات الدموع) لعائشة زاهر، و(غيوم الخريف) لإبراهيم الناصر، و(لحظة ضعف) لفؤاد صادق مفتي، وغيرهم. فإذا وصلنا إلى التسعينيات لاحظنا حضور الموت بدءاً من عناوين بعض الروايات التي تشير إليه مباشرة أو إيحاء، إضافة إلى هيمنة معجم الموت واتساع فضائه، وتأثيره على نفسية الشخصيات بوعي أو بغير وعي، ولم تظهر فكرة الموت في أي مرحلة تاريخية كما ظهرت في هذه المرحلة وما بعدها، ولعلنا نرجع ذلك إلى حرب الخليج وما خلفته من دمار وخوف، كما أنّ مشاهد الموت التي أصبحت مادة إعلامية يومية تنقلها كل القنوات الفضائية بشكل لم يحدث في المراحل السابقة مثلما يحدث اليوم، هذا كله جعل فكرة الموت علامة استفهام ملحة في الأعمال الروائية التي صدرت في تلك الفترة، والتي تناولت هذه القضية بأشكال مختلفة كالموت الجسدي الفعلي، والموت الرمزي الذي يشير إلى موت المثل والقيم كغياب العدل وحضور الظلم، وغياب الحرية وحضور القمع، وغيرها مما تعرضت له الروايات في أحداث الموت أو القتل أو الانتحار أو تذكر الموتى واستعادة الماضي، تشكلات مختلفة للموت داخل الرواية وفق تنوع في الأسلوب واختلاف في الرؤى والأفكار، وفي مستويات فنية مختلفة على مستوى الزمان، والمكان، والحدث، والشخصيات.
ولعل روايات عبده خال خير مثال على هيمنة فكرة الموت على أعماله، فمن النادر أن نجد له قصة أو رواية لا يرد فيها ذكر الموت، أو لا يكون فيها العنصر المهيمن والهاجس الذي يسيطر على الشخصيات، والمحرك للأحداث، فمنذ رواية (الموت يمر من هنا) يصدمك العنوان الذي يحمل دلالتي الموت والحياة معا، وقبل أن تتقدم داخل النص تلفحك رائحة الموت في قرية فقيرة بائسة استعرض فيها الكاتب حياة الموت ظلما في ظل غياب العدالة والحرية، التي صادرها شخص حكم القرية فتجبر وبطش ورضخ أهلها للظلم فماتت شجاعتهم واستسلموا بعد أن كان الموت مصير من يقول الحق وينتصر له، والهروب من القرية كان سبيلا للحياة، في هذه الرواية حضر الموت على المستوى الجسدي حيث الفناء من المرض والجوع والظلم والقتل، وعلى المستوى الرمزي الذي كان يؤكد غياب العدل في ظل السلطة التي تقمع الفرد وتقتل حريته، لتحول بينه وبين تحقق أحلامه، فالحلم دائما يصطدم بسلطة الآخر أيا كان، وبالتالي يموت أمام عجز الفرد واستسلامه.
ويحضر الموت أيضا في رواية (الطين) التي نجد الموت فيها يأخذ بعدا فلسفيا عميقا يناقش فكرة الموت والحياة بنظرة متساوية، وكأنهما بالنسبة إليه شيئا واحدا، ويثير أسئلة عميقة حول حقيقة الموت أكثر من البحث عن إجابة لها ف(السؤال يمنحنا جناحين للتحليق بعيدا. أما الإجابات فهي شرك، نظل بقية العمر نحاول الفكاك منه). ( الطين ص 46) تبدأ الرواية بالكتابة وتنتهي بالكتابة، إنها الحياة عبر الكتابة، بطلها الموت والبحث عن حقيقة وجودنا في الحياة من خلال حوار الدكتور النفسي حسين مشرف ومريضه الذي يصر على (أنه مات، وعاد. يقف في تلك اللحظة المتأرجحة بين الحياة والعدم، ويرى أنّ هذه العودة ليست وهما بل حقيقة يدلل عليها من خلال كثير من الأحداث التي مرت به والتي يمكن أن تخضع للتمحيص والمقارنة. هذه هي المعضلة التي لم أستطع رفضها أو قبولها، ويبدو أنني أصبت بلوثة مريضي، فصرت مريضا بوساوسه. لم يعد هناك ما يشغلني سوى إثبات أو نفي مقولاته) (الطين ص 49) وتمتد على مدى صفحات الرواية فكرة مقاومة الموت من خلال العودة منه وهي العبارة التي تكررت في معظم الفصول (أذكر أنني مت... الآن أذكر هذا جيدا... لست واهما البتة) (الطين ص 47) الموت كما ظهر في نهاية الرواية فكرة فلسفية شغلت البطل - السارد يرى أن الحياة تشكل نصف دائرة تبدأ من (أ) و(لا بد من أن تستكمل دورتها وتعود إلى (أ) لتكون دائرة) (الطين ص 382) أي فكرة الخلود التي تحدثنا عنها سابقا، ومن الممكن التعامل مع هذا النص على أنه رواية رمزية - توظف الشخصيات والأحداث والمكان لتكريس فكرة معينة تهيمن على النص يطرح من خلالها رؤية التغيير عبر المعادلة الأزلية (موت - حياة).
وتظل فكرة الموت مهيمنة على بعض الروايات لكثير من الكتاب السعوديين بما يوحي أنها مشكلة حاضرة في ذهن المبدع -كما قلنا في بداية حديثنا- مما حولها إلى هاجس يبحث عن الخلود من خلال الكتابة.
تلك فقط بعض الأفكار والرؤى التي لمستها أثناء قراءتي لمعظم الروايات السعودية، والخوض في تفاصيل هذه الثيمة يحتاج لدراسة طويلة.
جدة