تختلف الأساليب في التعريف بموضوع ما، ولكن اختلافها قد يبقى نتاج أداة تفكير واحدة، من هذا يسهل جدا أن ينتقل أحدنا بتفكيره من اليمين إلى اليسار كتيارين في تعريف حرية المجتمع مثلا، فالراديكالية مع كل ما طرحته من جماليات الانقلاب والثورية لم تؤسس في الانتقال بالتفكير خارج مناطقه قدر ما أسست الانقلاب عليه، إن اليمين أيا كان مجتمعه يعرف الحرية بما لا يخرج عن الثابت من العرف سواء كان تشكيله دينيا أو موروثا مختلطاً، ومن ثم يذهب اليسار في غالب المجتمعات إلى تعريف حريته بعدم إلزامه بالثوابت وترتكز مطالبته في ذلك على رفض الرؤى اليمينية، نلحظ أن كلا التعريفين نتج عن مساحة تفكير واحدة وهي الثابت من الدين والموروث أو العرف العام ولكن على أطراف مختلفة، يكثر في هذا أن نسمع الرأي المخالف يبدأ قوله بالمعاكسة لأن الاتجاه هو القاعدة، وتبقى المقابلة غير مردافة للمضادة لكونها صورة أكثر منها اتجاها، ولأن هذه الطريقة من التفكير هي الأكثر بداهة كانت الأكثر شيوعا على تنوع المجتمعات وكان لها الصوت الأعلى عبر التاريخ، ولهذا كانت الآراء أو الرؤى الأسرع والأسهل نقضا هي من تتخذ من الأطراف منطلقا لها (الشيوعية/ الرأس مالية - القومية/ الأصولية), وحتى نتعرف على مناطق تفكير مختلفة في تعريف حرية المجتمع كمثال سأذكر تعريف أحد الدبلوماسيين بأن الحرية في المجتمع لا تتحقق إلا إذا ضمن العامة فيه الأمان، إنه ينطلق من الحاجة إلى الأمان كغريزة إنسانية منطقة لتفكيره، وإن إشباع الغرائز بكونها أسس تكوين الإنسان تعد فطرة بينما تقييم المواضيع على أسس الدين هو بداهة ذهنية، والبداهة تختلف عن الفطرة لأن البداهة تتباين من فرد لآخر ومن مجتمع لغيره، بينما الفطرة تبقى واحدة إلا في حالات معينة لعوامل محددة، إن مناطق التفكير إذن تختلف عن أدواته فالدين والغريزة مناطق تفكير بينما البداهة والفطرة أدوات وإن كانت على المستوى اللاواعي، ولأعيد الصياغة بشكل أوضح العرف منطقة وأداة البداهة أنتجت رأيين باتجاهين متضادين هما التمسك به أو التخلص منه، والغريزة منطقة أخرى وأداة الفطرة أنتجت منها رأيا واحدا هو الإشباع، فهل يعني هذا أن الفطرة أداة إنتاج باتجاه واحد؟ ربما ولهذا الخروج عن الفطرة يعد على الأغلب شذوذا، حتى وإن خرج أحد ما عنها فهو لن يرفض الالتزام بها قدر ما يطالب بحقه باحتياج مختلف منها أي أنه لن يشكل طرفا ضديا لأنصار الفطرة، إن أداوت التفكير هي ما يمكن لنا بشكل أوضح تحديدها بنمذجتها أو منهجتها مثل نظريات المعرفة ومناهج التحليل والقراءة وعمليات التأويل، بينما مناطق التفكير تبقى أسيرة موضوعها سواء كانت على المستوى الواعي، أو اللاواعي الذي باعتباره غير مدرك سيمنح المبحث فيه انغلاقيته أو خصوصيته، وباجتهاد بسيط قد لا يصح يمكن اعتبار تجديد الدكتور نصر حامد أبو زيد في الأدوات بينما يرتكز تجديد الناقد علي حرب على التفكير في مناطق (غير المفكر فيه) كما يسميها هو، لا يعني هذا أن أحدهما لم يجدد بما جدد به الآخر ولكن يأخذ من الوضوح درجة الاعتبارية فقط، ولكونه اجتهادا سأمتد إلى أن قوة طرح الدكتور تكمن بكشفه عن أدوات الفكر التقليدية في الموروث الإسلامي وقدرته على استخدام أدوات جديدة، ولا يأخذ بهذا أنه لم يتطرق ببحوثه لمواضيع لم يفكر فيها لكنه حتما تطرق لها لا بكونها مناطق تفكير لاواعية بل محرمة وهذا ما أفترضه أحد أسباب الضدية التي تعرض لها من الآخرين فبحوثه تبقى تشتغل على المستوى الواعي من حديثهم، بينما أجد مع النقد الذي يطرحه علي حرب أنه يشتغل من مناطق تفكير لم يبحث بها أو لنقل يكشف عن مناطق لا واعية لمناطق التفكير الواعية، ولنفس السبب ربما سيبدو علي حرب نخبويا بالبعد الانعزالي أكثر من أبو زيد يظهر ذلك بما تعرض له الدكتور من تضييق في حياته في حين يبقى علي حرب في سلم مع الدولة أو جمهورها وطبعا لا بإرادة نصوصه لكن بإحجام الأغلب عنها، والاحتمال الآخر هو أن الأكاديمية تنتصر لمؤسستها لا للعلم، تبقى قبل كل هذا الأهمية للاسمين بما حققاه من اختلاف في مجال التفكير بمستوييه الواعي واللاواعي بعيداً عن كل تأييد أو رفض قوبلا به، ومن هنا سيكون لاجتهادي تتمة في ورقتين أخصص الأولى منهما للدكتور نصر والثانية للناقد علي حرب سأتناول بهما ما يسمح لي بإيضاح الاختلاف الذي ألحظه من بحثي في الذي أقرؤه وكيف أقرؤه.
كاتبة وباحثة سعودية - الرياض
Lamia.swm@gmail.com