أكرمني بعض الأصدقاء بزيارة لي - منذ ليال قليلة مضت - فتسامرنا، وتجاذبنا أطراف الحديث ما شئنا، وكان يمكن أن ننتهي إلى أي موضوع كان تبعا لتوارد موضوعات الحديث.. وذلك هو الطبيعي في مثل حالتنا هذه!!
ولكن من الغريب.. بل من الطريف حقاً أن تصل بنا تجاذبات الحديث إلى روايات شتى عن (الفئران) وأفاعيلها.. فأتاح لي ذلك أن أكون المتحدث الوحيد بينما الأصدقاء في حالة صمت مطبق، وكأن على رؤوسهم الطير.. كما يقال.
وما ذلك إلا لوفرة، أو كثرة ما عندي من طرائف، وحكايات، وروايات عن (الفئران) كنت أنا شخصياً بطل تلك الروايات، والحكايات، والطرائف.. ومن ثم كان (السّرد) حيّا، وبدون (عنعنة) من نوع (عن أبيه عن جده) فشرعت من ثم في سرد أول حكاية - حدثت لي - مع (الفئران)!!
وكان ذلك في أواخر الثمانينيات، أوائل تسعينيات القرن الماضي (لا أذكر بالتحديد) وكانت هناك مناسبة رسمية مهمة في (الرياض) توافد من أجلها مجموعة كبيرة من الصحفيين!!
كان لي من بينهم بعض أصدقاء في مقدمتهم الصديق الأستاذ (عبدالله الشيتي) رحمه الله.. ثم بعض لبنانيين وجدتهم عند الصديق (الشيتي) عندما قمت بزيارته في الفندق.. فأراد توريطي - كما هي عادته معي - فعزم نفسه، ومن معه على السهرة، والعشاء في منزلي.. فكان له بالطبع ما أراد!!
وعندما سجى الليل، وحبكت السهرة فوجئنا على حين غرّة بصرخة مزلزلة كان مصدرها أحد اخواننا اللبنانيين، وقد قفز واقفا، وهو يردّد: (الفار.. الفار)!!
وكان أمامه (فأر) ضخم يتهادى في غرفة الجلوس!!
وأما أنا فقد ذبت خجلا، وقد زاد من ذلك ما كنت على يقين منه من حيث لم يسبق لي قط أن رأيت (فأراً) في منزلي ذاك، ولا سمعت قط من أي واحد، أو واحدة من عائلتي عن وجود فأر لدينا، ولا على حد ما يقوله أستاذنا إحسان عبدالقدوس (في بيتنا فأر)!! فمن أين جاء هذا الفأر اللعين؟!
لست أدري، وكل ما فعلته هو أن طلبت من ضيوفي أن يمسحوها في شنبي.. وأن تستمر السهرة على أفضل مما كانت.. وهكذا كان!!
وفي حوالي عام 1392هـ نُقلت إلى (جدة) فاستأجرت شقة فخمة في عمارة جديدة تماما.. ولكن حدث لي مع (الفئران) ما لم يكن في الحسبان، وهو ما كتبت عنه في الصفحة الأخيرة من مجلة (البلاد) الأسبوعية بتاريخ 21-9-1392هـ ولطرافة ذلك المقال.. لا أرى بأساً في إعادته بنصه فيما يلي:
الفئران.. وأنا؟!
(لم أقدم الفئران على شخصي الكريم في هذا العنوان اعتباطا أو مصادفة أو حتى تواضعا.. وإنما اقتضاني ذلك الوفاء لطول العشرة بيني وبين الفئران، والمشاركة في السكن والطعام.. والمكتبة!!
حيقيقة أنني أنفرد فقط بدفع إيجار السكن، وشراء المقاضي، وكذلك شراء الكتب بالطبع أما ما عدا ذلك.. فكل شيء بالشراكة، والعشرة على الخير، والشر، والحلوة، والمرة مع أصدقائي الفئران!!
نسكن جميعا، الفئران، وأولادي، وأنا في منزل واحد، وأنا أقرأ الكتب والفئران تقرضها!!
أما الطعام فهو من باب أولى على قدم المساواة.. بل ان الفئران تتعجل أحيانا كثيرة فتسبقنا على الطعام قبل طبخه وبعد طبخه أيضا ما وسعها إلى ذلك من سبيل!!
وأذكر أننا - أولادي وأنا - عندما لاحظنا وجود الفئران لأول مرة في منزلنا بدون استئذان أو دستور.. اعتبرنا ذلك ضربا من قلة الذوق والتربية.. بل ضربا من الهوان والاحتلال لأرضنا.. وشعبنا!!
وهكذا بدأ ترددي على الصيدليات لشراء السموم.. بل وصل بي الأمر أن طلبت من المديرية العامة للزراعة بجدة كمية من سموم الفئران، وقد حصلت بالفعل على كمية من هذه السموم الفتاكة!!
وكان لابد أن أتعلم طريقة استعمال أو تقديم السموم للفئران.. فتعلمت بل أصبحت مرجعا من المراجع في هذا الشأن.. ولا فخر!!
ولكن المشكلة أنني لم أتصور العدو على هذا القدر من المكر، والحيلة، والدهاء، فكلما وضعت الطعام النظيف في صحن نظيف وفي مكان بارز، وأضع مع الطعام شيئا قليلا من السم.. أفاجأ في اليوم الثاني بأن الوليمة التي قدمتها باقية كما هي لم تقربها الفئران.. ومن ثم لم تمت طبعا!!
وتكررت المحاولات بشتى الطرق والوسائل.. ولكن دون جدوى.. بل تزاوج الفئران في منزلنا وازداد النسل في غفلة من دعاة تحديد النسل في العالم!!
وهكذا رضخنا في النهاية للأمر الواقع، وقبلنا بالتعايش غير السلمي مع هذه الفئران.. بل أصبحنا مع الفئران في وضع يمكن أن نسميه (شركة غير مساهمة متعددة المضار) ولا حول ولا قوة إلا بالله!!) انتهى
وإلى هنا انتهت حكايتي الثانية مع الفئران!!
وأما الثالثة، وهي الأحدث، والأقر زمنيا حيث كانت منذ شهر فحسب حيث اكتشفت عاملة المنزل وجود فأر ضخم للغاية.. يعيش في جناحي الخاص بالذات، وليس في المنزل، ولا في ملاحقه، ولا في مستودع الكتب.. أيّ فأر قط!!
كان واحدا يتيما مقطوعا من شجرة.. وقد أراد بسبق إصرار، وتصميم مشاركتي شاركة كاملة حيث أنام، أو أستريح، أو ما إلى ذلك من حيث قام بعمليات إرهابية تخريجبية متعددة، متنوعة أدناها قرضه، وقطعه أكثر من مرة، ومرة لأي سلك كان!!
وكنا نعجب لذلك قبل اكتشاف أمره!!
وقد طمأنتني عاملة المنزل وهونّنت عليّ المسألة مؤكدة أنها ستقضي عليه، أو تطرده - على الأقل - من عندي!!
ولكن رغم كل ما بذلته من محاولات، ورغم اضطراري لمشاركتها شخصيا لن نحقق - هي وأنا - أدنى إنجاز على الأرض!!
وقد تأخرت عن طلب شركة متخصصة للقضاء عليه بسبب كرهي الشديد، وحساسيتي الأشد تجاه رائحة المبيدات!!
إلا أنني اضطررت في النهاية إلى الاتصال بإحدى شركات القضاء على الحشرات والزواحف ونحو ذلك!!
وبالفعل جاء ثلاث أشخاص أحدهم (مهندس) كما قالوا، ومعهم مولّد كهرباء، وأجهزة خاصة للرش.. إضافة إلى كمية كبيرة من (المبيد) الذي بشروني قبل كل شيء بأن لا رائحة له!!
ورغم إخباري لهم بعدم وجود أي مشكلة في منزلنا من نوع اختصاصهم فيما عدا ذلك (الفأر) الضخم العنيد إلا أنهم قاموا برشّ جميع غرف المنزل، والمستودع من باب الاحتياط حسب ما قالوا!!
وأما ذلك (الفأر) لقد أكدوا لي أن القضاء المبرم عليه سيكون في أقل عدد من الدقائق!!
وهكذا فعلوا كل شيء، ولهفوا مني مبلغا من المال بحجة غلاء (المبيد) الخالي من الرائحة.. فدفعت مع اعتقادي الجازم بكوني الرابح الأول في تلك الصفقة حيث كانت (غلاسة) ذلك (الفأر) مزعجة للغاية!!
وكانت علامة وجوده في غرفة نومي هي مجرد إطفاء النور لتنشقّ عنه الأرض، وأسمع حركته، وعبثه في سائر أركان الغرفة.. غرفتي بالذات، وليس غيرها!!
وهكذا قلت بيني وبين نفسي - بعد ذهاب أولئك العُمّال - إذن الليلة لن تنشقّ الأرض عن شريكي اللعين.. ولكن ما إن جاء وقت النوم، وقمت بإطفاء النور حتى سمعت حركته فقمت بسرعة بإشعال النور، وإذا هو أمامي يقفز هنا وهناك حتى انتهى، أو استقر في الحمام!!
ولا تسألوني عن الجهود الضخمة التي بذلت بعد ذلك من أجل القضاء عليه وحده حتى انتهيت أخيراً من كل ذلك.. إلا أنني مازلت أشعر، أو يخيل إلى أنه مازال معي في غرفة نومي، وكأني أسمعه، وكأني أراه!!
جدة