Culture Magazine Thursday  11/06/2009 G Issue 287
فضاءات
الخميس 18 ,جمادى الثانية 1430   العدد  287
فتنة اللغة بين الموت والبعث في الرواية السعودية (2)
نورة القحطاني

 

2- غياب الشخصية وحضورها:

تنقسم الشخصيات (إلى سكونية، وهي التي تظل ثابتة لا تتغير طوال السرد، ودينامية تمتاز بالتحولات المفاجئة التي تطرأ عليها داخل البنية الحكائية الواحدة. كما يجري النظر إلى أهمية الدور الذي تقوم به الشخصية في السرد والذي يجعلها تبعًا لذلك إما شخصية رئيسية أو (محورية)، وإما شخصية ثانوية أي مكتفية بوظيفة مرحلية) (6) لذا فإنّ الشخصية داخل النص تخضع لقانون الموت والبعث على يد الكاتب، حيث إنّ تهميش شخصيات معينة هو موت رمزي لها بفعل الكتابة، التي تبعث الحياة في شخصية محورية على حساب شخصيات النص الأخرى، ويكون ذلك إما بوعي من الكاتب أو لاوعي، ولعلنا نستدعي بعض الروايات النسائية كدليل على موات بعض الشخصيات داخل العمل بفعل الإقصاء والتهميش (بغية تأسيس خطاب مضاد لخطاب الرجل. فمثلما يمارس الرجل حرب الإقصاء في خطابه الواقعي، فإنّ المرأة تمارس الإقصاء في المتخيل بعد أن عجزت عن تحقيق الإقصاء أو استرداد حقها في المماثلة لخطاب الرجل في الواقع) (7) ولهذا كانت المرأة هي البطل في الروايات النسائية بينما جاءت شخصية الرجل هامشية بلا فاعلية تذكر، فلم نره أو نسمعه إلا من خلال المرأة/ البطل، وقد يشير هذا إلى نوعٍ من القتل الرمزي تمارسه المرأة عبر الكتابة، ثم بحيلة سردية تبعثه مرة أخرى للحياة من خلال تقنية التذكر، وذلك ما نلمسه في رواية (آدم يا سيدي) لأمل شطا، حيث تنبئنا الرواية من أول سطورها بموت الرجل (يوم رحيلك.. صرخ شيء في أعماقي..

لقد مات زوجك يا عائشة.. مات أبو عدنان..) (8).

لكنها تبعث الشخصية في ذهن القارئ باستنطاقها أو محاورتها وكأنما هي ماثلة أمامها، تحدثها وتسمعها، حتى نشعر بعمق التجربة ورهافة الحس، لتكشف لنا عما يعتلج بداخلها من مشاعر وأحاسيس (وبقيت أتجرّع مرارة الصبر، وصورتك لا تبرح مخيلتي وتلازمني كظلّي، أراك في كل ركن وفي كل زاوية، أسمع صوتك وضحكاتك وهمساتك ووقع أقدامك، وأتوقّع قدومك في كل لحظة، وأظلّ أحملق في الأبواب ملهوفة، والأمل يحدوني أن تبزغ من وراء أحدها) (9) فالأفعال (بقيت، لا تبرح، تلازمني، أراك، أسمع، أظل) تدل على محاولة بعث الشخصية وتأكيد وجودها رغم موتها الفعلي، وهذه الحيلة السردية لا تشعر القارئ بتواطئ الكاتبة مع بطلتها التي تعمدت تغييب الشخصية وإقصائها لتتحكم في حركتها داخل النص وكيفية حضورها من خلال العلاقات السردية التي تتضافر لتشكيل بنية النص.

ويقابل تغييب الرجل في رواية المرأة تغييبًا للأنثى في رواية الرجل، فرواية (فسوق) لعبده خال تبني أساس حكايتها على الأنثى الغائبة، حيث تبدأ الأحداث بموتها وينطلق السرد بهذه العبارة الصادمة للمتلقي (هربت من قبرها) (10) لتبدأ الأحداث بعدها باستعادة سيرة (جليلة) تلك المرأة الغائبة حقيقة، فهي في الأصل ميتة ولم نسمع صوتها أو نلمس فعلها داخل النص كشخصية متحركة، لكنها بعثت من خلال الحكايات التي نسجت حولها من أهالي الحي بعد خبر هروبها، فهي ميتة حية داخل النص وبإيحاء من أول جملة في الرواية (هربت) تعني أنها حية، لكن الكلمة بعدها (من قبرها) تدل على موتها، لنمضي في التأرجح بين الشك واليقين من موتها (لم يكن متيقنًا من أنها افتعلت الموت لتهرب من قبرها)(11) مما يخلق لدى القارئ أفق توقعٍ خاصٍ يختلف كلما تقدم في متابعة الأحداث، وتثير ثنائية موت الشخصية وحياتها في آن ٍ واحد أسئلة كثيرة تغدو معها الشخصية الميتة حاضرة في ذهن القارئ وذاكرته، يحس بها ويسمع صوتها، ويشعر بحركتها رغم صمتها الميكانيكي- حتى تخرج إلى ديناميكية الحياة داخل النص بفعل بناء حكاية حب من حارس المقبرة الذي عاش من خلال موت جليلة حياة جديدة، وبرغم فعله المرفوض ونهايته المثيرة للاشمئزاز إلا أنه قد يكسب تعاطف القارئ، فهو يمثل نموذجًا ضعيفًا في مجتمع وأده في الواقع وأقصاه واستكثر عليه أن يحب، فتحول إلى شخصية ميتة روحًا حية جسدًا، دفعه ذلك إلى معاشرة الموتى إحياءً لحبه الميت. إنها مناورة ذكية من الكاتب ليضمن استمرار الشخصية حاضرة في ذهن القارئ رغم موتها.

3- بعث المكان والزمان:

كيف يمكن أن يعود المكان حيًا بعد موته؟ وهل ينطبق عليه قانون البعث داخل النص كما تمثل على مستوى المفردات والشخصيات؟ أسئلة نجد إجابتها من خلال رصدنا لبعض الأماكن التي عادت تنبض بالحياة بفعل التوظيف الفني لها داخل النص، بشكلٍ يرسخ أوصاف المكان ويحدد أهميته في ذاكرة المتلقي، فالوصف الدقيق للمكان يمكن القارئ من تلمس ملامحه، ويزيد إحساسه بحضور المكان بمعرفة معالمه، ليجبر المتلقي على البقاء في العالم الداخلي للمكان، وبالتالي بعثه حيًا لإغرائه بمتابعة أحداث النص وتفسيرها،

فالمكان خارج النص ميت ويتم بث روح الحياة فيه عندما يتشكل داخل بنيات النص، فالمقبرة مثلاً التي ورد الحديث عنها في رواية (فسوق) هي في الحقيقة مكان للأموات لا حياة فيه، لكنه بفعل أحداث النص التي بدأت من المقبرة بعد حكاية هروب جليلة من قبرها، لتتحول المقبرة بعد هذا الحدث إلى مكان حي يغص بالأحياء ليلاً ونهارًا (هروب جليلة من قبرها، انفجر كقنبلة، تصدعت لها قلوب الكثيرين، وتحولت إلى سلوى تحرك ركود الحي الميت، وتحولت المقبرة إلى متنزه يتزاحم أهل الحي للتنعم بالوقوف فيه.

وأغلقت أبواب المقبرة بسبب هذا التكدس، عن استقبال موتى جدد. وظل الحي مزارًا لرجالات الأحياء المجاورة) (12) فيظهر المكان هنا وكأنه حدث مهم ينسجم مع محتوى النص الحكائي المتعلق بموت الضحية واختفائها.

وإحياء الأماكن داخل النص يخلق قيمة فنية تعامل معها الكتاب بأساليب مختلفة حتى أصبح المكان في بعضها هو البطل الرئيس والمحرك للأحداث.

أما على مستوى الزمان فإن موته يبرز على مستوى إهماله وتهميشه لحساب العناصر الفنية الأخرى، لكنه يتمثل حيًا داخل النص في بعض الروايات من خلال استدعاء الزمن الماضي وإحيائه في ذهن المتلقي بسرد أحداثه، تستدرجه الرواية عامدة، لتؤكد استمرار وجوده، فذكريات الماضي ثابتة أزليّة تعيش في النفس الإنسانيّة، تستدعيها كلّما احتاجت إليها، فإما أن تكون ذكريات مؤلمة تسبّبت في حاضر بائس تعيشه الشخصيّة، وإما ذكريات جميلة أجمل من حاضر الشخصية القاسي، تستحضره لتخفّف من آلامها وتعبّر عن حنينها لذلك الماضي، والذاكرة (لا تقص لنا ما مضى فحسب ولكنها أيضًا تكشف لنا ما هو أمام) (13) حاضرها ومستقبلها.

وفي رواية (أنثى العنكبوت) تبدأ الكاتبة من النهاية لتسرد لنا روايتها، وتستعيد ماضيها الذي جعلها سجينة تنتظر تنفيذ حد القصاص فيها، ويتّضح لنا من أولى صفحات الرواية أننا أمام مذكرات البطلة/ الساردة التي تبوح على الورق بما كان يثقل كاهلها من مشاعر وذكريات (تلوح لي أيامي الماضية كأطياف من الأحلام... ترى هل كنت مخطئة طوال حياتي، هل جانبني الصواب في كل خطواتي، هل كياني كلّه شر مطلق ولم أعرف الخير قط كما صرخ بوجهي البعض... لا أدري... لكنني قررت مواجهة الورق بحقيقتي والانكشاف الأخير أمام الذات بلا قشور أو زيف أو خداع) (14) فمن خلال التذكّر بعثت زمنها الماضي الذي لا يزال راسخًا في قلبها وفكرها، فأضاءت بذلك حاضرها البائس ؛ لتفجّر في نهاية الرواية غايتها من تذكّر ماضيها أو بالأحرى سرد حكايتها.

و بعث الزمن الماضي داخل النص سمة انتشرت في معظم الروايات السعودية والنسائية منها خاصة والتي تبرز فيها استعادة الذاكرة بشكل كبير، مما يوحي بالحنين إلى الماضي الجميل فتبقي القارئ مشدودًا إليه في حديثها، ليتجسد حيًا داخل النص.

كل ما سبق عرضه من موت وبعث داخل النص حتى نصل إلى نهايته، تؤكد امتداد النص حتى بعد قراءته، حيث يظل المتلقي يعيد النظر في محتوى النص، ويتأثر ويؤثر فيه بأفكاره، ومواقفه لمختلفة، وبذلك يتحول النص إلى حلقة دائرية، تنتهي لتبدأ دورة جديدة من دورات الحياة. وهنا ومع ختام هذه الورقة يحق لنا أن نتساءل: أما زلنا غير مؤمنين بأنّ النص يشبه المقبرة التي تبعث الحياة في الأموات؟

* * *

الهوامش :

6) تودوروف، نقلاً عن: حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990م، ص215.

7) حسن النعمي، رجع البصر، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 2004م، ص52.

8) أمل شطا، آدم يا سيدي، جدة، شركة المدينة المنورة، 1997م.

9) المصدر السابق، ص19.

10) عبده خال، فسوق، بيروت، دار الساقي، ط3، 2006م، ص7.

11) المصدر السابق، ص29.

12) المصدر السابق، ص52.

13) عبدالله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، ط2، 1997م، ص221.

14) قماشة العليان، أنثى العنكبوت، بيروت، منشورات رشاد برس، ط2، 2001م. ص10.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة