الثقافية: حازم السند
علم اللغة أو (اللسانيات)، من العلوم الإنسانية الحديثة التي أخذت حيزا كبيرا في البحث، وأصبحت ميدانا للآراء والنظريات المختلفة.
اللسانيات تبحث في اللغة من حيث نشأتها وتفرعاتها وخصائصها، الصوتية والنحوية والصرفية والدلالية، وكذلك دراسة علاقتها بالعلوم الأخرى في شتى الفروع: الأدبية، والتاريخية والاجتماعية والنفسية والأنثروبولجية والسياسية والاقتصادية والحاسوبية وحتى الحيوية!
إلى أي مرحلة وصل هذا العلم، وماذا عن المدارس التي تحتويه، وكيف استفادت العربية منه، وماهو دور علماء العربية في هذا العلم، نستضيف الدكتور عبدالرحمن بودرع، أستاذ النحو واللسانيات بكلية الآداب ب تطوان، ليجيبنا حول هذه القضية ويفيدنا بآرائه التخصصية.
اللسانيات منهجية حديثة
هل تعني (اللسانيات) ما يعنيه مصطلَح (اللغة) العربي القديم؟
- الحقيقةُ أنّ مصطلَح (اللسانيات) أو (اللّسنيات) أو (الألسنيّة) مصطَلَح حديث لا يعدو السّبعينات، مستمَدّ من الأدبيات الغربية في دراسةِ اللغة الطبيعيّة دراسةً علميّةً ممنهجة، وقد أصبح هذا العلمُ مُستَعاراً في سائر ثقافات الكرة الأرضيّة اليوم. وعلى الرّغم ممّا يشوبُ مصطلَح اللسانيات في العالَم العربي من تشعّب واختلاف وتشتّت وتعدّد مجالات، فإنّه أصبح أمارةً على التّحديث في مناهج الدّرس اللّغوي وتجاوز الطّرق التّقليديّة التي كانت متّبَعَةً في مقاربة الظّاهرةاللّغوية.
والحقيقة أنّ مصطلَح اللسانيات لا يعني ما تعنيه علوم العربية بالمعنى القديم لأسباب عدّة نوجزها في ما يلي:
- أنّ اللسانيات دراسة منهجيّة علميّة للظّاهرة اللّغوية البشريّة عامّةً، أمّا علوم العربية فهي دراسة تتناولُ جوانبَ من اللغة العربيةخاصّة كالجانب النّحويّ أو الصّرفي أو البلاغي...
- واللسانيات علم حديثٌ ولِد على أنقاض علوم اللغة الكلاسيكية وفقه اللغة المقارن والنحو المعتمِد على المنطق الأرسطي... بعدَما أحدثَ قطيعة معرفيّة ومنهجيّة مع ماضي الدّراسات اللغوية
- أنّ اللسانيات شعبة من شعب العلوم الإنسانيّة لأنّها تتناول بالدّراسة ظاهرة من الظّواهر الإنسانيّة هي الظّاهرة اللّغويّة، أمّا علوم العربية فهي كما قلنا منحصرة في دراسة اللغة العربية واستخراج قواعدها وبيان أنساقها وقد ألّف العلماء المصادر الكثيرة في دراسة معجم العربية ونحوها وإعرابِها وصرفها وأصواتها وبلاغتها... ولمنّها بلغت من الدّقّة والعمق والتفصيل ما جعلها قابلة لأن تقف في مصافّ اللغويّات العالميّة اليوم وأن تُقارَن بكثيرٍ من النظريات اللسانية الحديثة.
- ويُضافُ إلى الحديث عن الفرق بين الدّراسات اللغوية العربية القديمة والدرس اللساني الحديث أنّ اللسانيات الحديثة أتيحَ لها في هذا العصر الاستفادةُ من السياق العلمي المستفيض؛ إذ أفادت من المعارف الإنسانية والعلوم الدّقيقة وعلوم الحاسوب والإعلاميات، وهو أمر لم يُتَح بنفس القوّة للعلوم العربية قديما
- ثمّ إنّ الدّراسات اللغوية العربية القديمة عندما كانت تبني نحو لغتِها الخاصّة، فهي إنّما كانت تفعل ذلك بغاية حفظها من اللّحن والانحراف، أمّا اللسانيات الحديثة فإنها تسعى إلى بناء (نحو كلّيّ) يصف ويفسّر خصائص اللغات الطّبيعيّة بشكل أعمّ .
والمدارس اللسانية التي تحتوي اللسانيات كثيرة ومتشعبة، وتعدّدها راجع إلى الأسس الفكرية والفلسفية والمعرفية التي تنطلق منها كلّ مدرسة أو اتّجاه، فقد بدأ البحث اللساني مع العالم اللغوي دوسوسير باعتبارِه حقق قطيعة مع مناهج الدّراسة التقليدية التي كانت تحشر في دراسة اللغة اعتبارات اجتماعية وعرقية وتاريخية... وفرض منهجا وصفيا صارما يعتمد على ثنائية الدّالّ والمدلول... وعلى اعتبارِ البنية اللغويّة بنيةً مُغلَقَة لا تتأثّر بالعوامل الخارجيّة، ولا تتحكّم فيها المؤثِّراتُ الاجتماعيّة غيرُ اللّغويّة.
اللغات تتقارب كل يوم
هل هناك علاقة واضحة بين لغات الأرض اليوم؟
اللغات البشرية ذات علاقات وطيدة من جهتين:
- جهة طبيعيّة: وهي أنّها تنتمي جميعا إلى ظاهرة التّواصل البشري، فهي بذلك محكومة بقواعد كلّية جامعة تتناسب وكفايات المتكلمين منذ نعومة أظفارِهم، ولمنّ تنوّعها وتبايُنَها إنّما هو راجع إلى عوامل تاريخيّة وجغرافيّة وبيئية أثّرت في المبادئ والكلّيّات، ولكنّ هذه القواعد الكلية الراسخة في فطرة المتكلمينَ، تقوم بوظيفة ضبط المتغيرات اللغوية وتثبيت الوسائط والاختلافات فيكون تنوّع اللغات البشرية وجوها متعدّدة لعملة واحدة.
- جهة تطوّرية علمية: أصبحت اللغات اليوم تتقارَب فيما بينها بسبب التّطوّر العلمي والتّكنولوجي الذي أتاح التّقارُبَ الشّديد بين الشعوب، وبسبب الحاجة المتزايدة إلى التواصل الفوريّ السّريع، وهذا ما ساعد على نشاط حركة الترجمة الفورية بين اللغات لتقريب الهوة وتضييق الخلاف والتّمكين من الحوار والتفاهم على مختلف المستويات.
ولا شكّ أنّ التّقارب بين اللغات في الميادين الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية والتعليمية قد حصل ونجح إلى حدّ بعيد بسبب الحاجة إلى التواصل العالَمي، كما قلنا، ولأنّ اللغاتِ البشريَةَ مزوّدة بالفطرة بمبادئ وقواعد كلّية تناسب ملكات المتكلمين البشر قاطبةً، وتساعد على هذا التقارُب، وللغات آليات بنيوية للتقريب وتحقيق التواصل منها تفعيل البنيات اللغوية المشتركة (التركيبية والدلالية والمعجمية) وتنشيطها بكثرة الاستعمال، والتقليل من استعمال البنيات اللغوية الضّاربة في الخصوصية...
اللغة لها منطقها الخاص
أصل اللغة، شأن ميتافيزيقي، كفّ عن الحديث حوله العلماء، هل هناك بوادر لمعرفة الأصل
أصل اللغات هل هي توقيف أم اصطلاح أم محاكاة لأصوات الطّبيعة... موضوع تاريخي قديم كثر فيه الكلام بين فقهاء اللغة العرب وغير العرب، واختلفوا لاختلاف مذاهبِهم الفكرية والعقَديّة، وإذا جاز تفسير للغة بأنّ أصلها توقيف أو اصطلاح أو محاكاة، فإنما ينطبق على جزء من اللغة دون سائرِها، وكأنّ اللغات البشرية تضطرب بين التفسيرات الثلاثة، وما ذلك إلاّ لأنّ اللغة لا تخضع لمنطق عقلي جاهز أو مبادئ من صنع البشر ولكن لها منطقها الخاصّ ونَسَقَها المتميّزَ الذي يحكم بنياتِها الدّاخليّة، ومن خصائص المنطق اللغوي تلك المبادئ الفطرية العامّة بين البشر، أو الكليات اللغوية التي تحكم اللغات عامّةً فالحديث عن الكلّيات اللغوية بديل طبيعي ومعرفيّ مناسب، أصلَحُ من الحديث عن أصل اللغات هي مرجعية باطلة.
هل لتقسيم اللغات إلى عوائل أبعاد سياسية وهل المرجعية (اليهودية) التي تقسم العالم إلى أعراق وأصول تستحق أن تعتبر في العلم؟
- لا شكّ أنّ تقسيمَ اللغات إلى فصائلَ معيّنَة: هي الفصيلَة الهندية-الأوربيّة والفصيلَة الحامية-السّامية والفصيلة الطّورانيّة، لا يخلو من نزعة عرقيّة استعماريّة تريد أن تثبتَ التّفوّق الحضاري الأوربي على الشعوبِ لتسويغ استعمارِها وإلحاقها بها، ومن أشهر المُقسِّمينَ ماكس مولر ومارسيل كوهين ومييي ورينان وغيرهم ...
- فالحديث عن أصول اللغات محفوف بكثيرٍ من المخاطر والمزالق التاريخية وله أبعادٌ عرقيّة وعنصريّة؛ لأنّه مبني على اعتبارات غير علميّة، وقد كان الاستعمار في القرن التاسع عشر وما بعدَه مدعوماً بحملة استشراقيّة وتبشيريّة وثقافيّة توطّئ لدخولِه واحتلالِه.
- وكلّ تقسيم يدّعي المرجعيّةَ الأصليّةَ له ويقطع بذلك، إنّما يصدر عن نزعةٍ ذاتيّة تخلو من روح الموضوعيّة والنّزاهةِ العلميّة، وتفتقر إلى الأدلّة المناسبة من البنية والتّاريخ.
نذكر في هذا السياق كتابا لموريس أولندر، ترجمة جورج سليمان، نشر المنظّمة العربية للترجمة 2007، هذا الكتاب الذي نال به صاحبُه جائزة الأكاديمية الفرنسية عام 1990. وشهد بأهمّيته كبار الباحثين في هذا العصر في الدراسات الفيلولوجية والاجتماعية من أمثال إمبرتو إيكو، وجاك لوغوف، في مجال تاريخ الأديان والأجناس والفيلولوجيا، المهمّ في الكتاب قدرة الكاتب الموضوعيّة على كشف الأوهام والمزالق التي وقع فيها جمهرة من العلماء والباحثين في تناولهم مسألةَ التقسيم اللغوي من وجهة حضارية وعرقيّة مبنية على أطروحات عنصرية ، وما يتخلّل أبحاثَهم وتقسيماتِهم من تمايُز وتصنيف بين الشعوب والأعراق، من خلال أبحاث فقه اللغة، وعلم اللغة المقارن، وتاريخ اللغة، والبحث عن السمات المشتركة التي تلتقي عليها اللغات الهندوأوروبية، وفرضيات نشأة اللغة وتطورها وارتقائها، وهي مباحث اعترى بعضَ جوانبها المنحى الأسطوريّ المستند إلى الدين، فمال دارسو اللغات الهندوأوروبية إلى طريقة التقسيم التوراتي للشعوب وفق نظرية الأعراق.
ودخلت الأبحاثُ في نشأة اللغة والتقسيم التوراتي المُعتمِد على نظريّة الأجناس على أساس عرقيَ، دخلت دائرةَ المفاضلة وتمييز الجنس الآري على الجنس السامي . ومضى أمر البحث في درجات القرابة العرقية بين الأوروبيين والأصل الهندي المحتمَل، ثمّ جاء كتاب لغات الفردوس لموريس أولندر ليحلل كل هذه الاتجاهات الإثنية والفيلولوجية، وليردّ على أسطورَةِ تفوق النموذج العبري روحيا ودينيا ، وتفوق النموذج الآري بمزايا ترشّحّه للهيمنة على حركة التاريخ والحضارة والعقل والعلم والمجتمع، وليردّ على ادّعاءِ أنّ العبريةَ لغة الأصول الإنسانية انسياقا مع دعوة القديس أوغسطين، السريانية وفق رأي اليوناني ثيودوروس الصوري.
لقد شهدت بداية ق 19، تحولات كبرى في العلوم الإن سانية؛ وشهدت اللسانيات تحولا من ادّعاء أفضلية العبرية إلى أفضلية السنسكريتية، وبرز على قائمة تقسيم اللغات إلى فصائلَ اسمُ الباحث اللساني التاريخي وليام جونز حيث بدأ التحول نحو اللغات الهندو أوروبية والبحث فيها والتّخلّي عن غيرِها من الفصائل. وتبِعه شليجل وفرانس بوب وغيرُهما من دعاة المذهب. وكذلك إرنست رينان الذي كان ينطلقُ من نظرية الأعراق لإثبات أصالة الهندوروبيّة، وقد بدأت العبرية نفسُها، بعد أن تخلّى عنها علماء أوربّا، تفقد حضورها المركزي، ولكنّها تطفو على السطح من جديد كلما دعت ضرورات البحث في تاريخ الأنساب والأجناس.
هذه باختصار قصة التقسيم العرقي للغات الذي كان توطئة لاستعار الشعوب ثقافيا وإلحاقها بأوربا حضاريا.
أمّا عن المرجعية اليهودية في تقسيم اللغات فهي بطبيعة الحال مرجعيّة باطلة لا يُعتدّ بِها علميا لأنّها مرجعية في التشريعات الدينية والاجتماعية والعرقية تنطلق من تعاليم التلمود، الذي يوازي التوراة في التعريف بالشريعة اليهودية، ولا حاجة ههنا إلى التّذكير بما أصاب التوراةَ من تحريف فظيع وتزوير للتاريخ وتفضيل لأعراق وفصائل ولغاتٍ على أخرى... ولا بأس، بالمناسبة، أن يُطّلَعَ على كتاب (التلمود، المرجعية اليهودية للتشريعات الدينية والاجتماعية) تأليف عمر أمين مصالحة، نشر: دار الجليل للنشر والدراسات والابحاث الفلسطينية، ط.1، 2001م، وكذلك كتاب آخَر للمؤلف نفسِه: (اليهودية ديانة توحيدية أم شعب مختار؟)، دار الجليل للنشر والدراسات والابحاث الفلسطينية، ط.1، 2005م.
تفضيل اللغة نوعه من تفضيل للذات
من المشهور مقولة (أن اللغة العربية أفضل اللغات)، فماهي رؤية اللسانيين حيال ذلك؟
- قضية (أفضلية اللغة العربية) تندرجُ في إطار مبدأ تفاضل اللغات
والسؤالُ الوارِدُ في هذا الإطار: هل للعربية فضلٌ على غيرِها من اللغات؟
هل يعدّ تفضيلُ العربية على غيرِها من اللغاتِ أمراً مشروعاً من النّاحيةِ المنهجيّةِ والعلميّةِ، أم هو مجرّد تفضيلِ للنّفسِ وافتخارٍ بالذّاتِ؟
وإذا كانَ كلُّ مُعجبٍ بلُغَتِه معدّدٍ لمزاياها البلاغيّةِ وسعتِها المعجميّةِ ووفرَةِ ألفاظِها وقوّةِ بَيانها، يحرِصُ على إقناعِ غيرِه بمزايا لغتِه وفضلِها على اللّغاتِ، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الناسَ مُلزَمونَ أن يُسلِّموا له بِما يدَّعي؛ ولأنّ كلّ فردٍ يملكُ حقَّ الإعجابِ بلغتِه وتعدادِ محاسِنِها.
وتجدُ النّاسَ في هذا الموضوعِ منقسمينَ إلى فريقينِ: فريق يقولُ بتساوي اللّغاتِ ويتمسّك بما يقرره اللسانيون المحدثون من نفي التفاضل بين اللّغات، وفريق يميلُ إلى إسناد الفضل والمزيّةِ للغتِه دونَ سائرِ اللّغات.
والحقيقةَ أنّ اللغاتِ تتفاضلُ من زاويةٍ، وتتساوى من زاويةٍ أخرى؛ فهي متساويةٌ بالنّظرِ إلى كونِها تخضعُ جميعاً لقواعدَ ومبادئَ تصفُ بنياتِها وأنساقَها، وما من لغةٍ إلا وهي جهاز من الأصواتِ والمُفرَداتِ والتّراكيبِ والدّلالاتِ، وُضعت للتّواصُلِ والتعبيرِ عن الحاجاتِ المختلفة. ولكلّ لغةٍ طرُقُها الخاصّةُ في الإفصاحِ والتّبيين وإيجاد الآليات اللغويّة المناسبة للتعبيرِ عن المواقف المتبايِنَةِ، ولكلّ لغةٍ خصائصها في الاشتقاق والتّوليد، وأسرارها في الصّياغَة...
بل تجدُ التّفاوُتَ في اللّغةِ الواحدةِ، عندَما تُلفي أنّ البلاغةَ والفصاحةَ في كلامٍ دونَ كلامٍ، وفي نظمٍ دون نظمٍ، وهذا ما فسّرَه عبد القاهر الجرجانيّ في كتابِه (دلائل الإعجاز) بنظريّةِ النّظمِ.
ويحقّ لنا أن نتساءل في هذا الإطار: هل كلّ ما يُكتبُ الآنَ وتُصدره المطابع ودورُ النّشر يشهد بفضل على ما سواها؟ وهل كلّ ما تُنجزُه القرائح من فنّ شعري أو روائي أو مسرحي يشرف اللغةَ العربية ويدلّ على مكانتِها بين اللغات؟
- الجوابُ بالطّبع: لا ، لأنّ ما يُكتب من دراسات وما يُنظَم من فنّ لغويّ، فيه الغثّ والسّمين، وخاصّة في غياب النّقد الأصيل والتّقويم السليم. أما الفنّ الأصيل فإنّه يبقى ويُكتبُ له الاستمرار مهما تكن اللغة التي كُتبَ بِها.
وهكذا، فإن ما يصحّ أن يكونَ تفاضُلا بين اللّغات، إنّما هو أمر راجع إلى أسباب خارجةٍ عن اللغة، كتقدّم المجتَمَع واستناد اللغة إلى خلفيّة حضاريّة وثقافيّة واسعة يتّسع لها معجم اللغة وبنياتُها. فمبدأ التفاضل بين اللغات من هذه الجهة ليس في نظمها وقواعدها وإنما يكون التفاضل بين ما يُحيط باللّغات من ثقافة وحضارة وعقيدة تدعمها وتُسندها، ويصحّ أن نقولَ إنّ العربيّة كانت لغةَ مرموقةً يُقبل عليها الأعاجم لتعلّمها وللإسهام فيها، لِما للحضارة العربية الإسلامية من ريادة وتقدّم، وفضل العربية مُستمدّ من رسالة الإسلام الخالدة، ومن جوامع الكلم النبويّة، ومن الأدب العربي الفصيح . وما من لغة تحظى حضارتُها بالتّقدّم والعالَميّة إلاّ وسيكون لها من الانتشار والأهمّية ما كان للعربية من قبلُ. فمقياس التفاضل بين اللغات مقياس خارجيّ.
القرآن فجَّر طاقات اللغة العربية
ألا ترى أن كون إعجاز القرآن (لغوياً)، يعزز فكرة أفضلية اللغة العربية...!
الإعجازُ اللغوي للقرآن الكريم جزء من إعجازٍ أكبر، فهو إعجاز بيانيّ وإعجاز تشريعيّ وإعجاز علميّ...
وأمّا الإعجاز اللغويّ البياني فهو حقيقة لاشكّ فيها؛ فقد تحدّى القرآن الكريمُ العربَ أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سورٍ مثله مفتريات، أو بسورةٍ من مثلِه، تحدّاهم أن يأتوا بمثلِه شكلاً ومضمونا، دوالَّ ومدلولاتٍ، فعجزوا عن ذلك وهم فرسان بيانٍ ورواد بلاغة وأصحاب فصاحة، فغُلِبوا ووخُلِبَت ألبابُهم لمّا سمعوا الذّكرَ الحكيمَ، وخَشوا أن تتأثّر عقولُهم وقلوبُهم به (لا تَسْمعوا لهذا القرآنِ والغَوْا فيه لعلّكُم تغلبونَ)
الإعجاز البياني للقرآن الكريم إعجاز في النّظم والعبارة والأسلوب، كتبَ فيه العلماءُ قديما كالباقلاني والرّمّاني والخطّابي وعبد القاهر الجرجاني والرّازي، وكتب فيه المحدثونَ كالرّافعي وسيّد قطب وبدوي طبانة ومحمّد عبد الله درّاز وبنت الشّاطئ.
والإعجاز البياني إعجاز لغوي لا شكّ في ذلك؛ ولكن، ليس مَنْشَأ هذا الإعجاز جمالَ اللّغة أو مزاياها البلاغيّة وحسب، وإنّما مَنشؤُه ومبعثُه الحقيقيّ هو ما تتضمّنه الرّسالة الرّبانيةُ من قيم ومبادئ، وسلوكٍ ومعامَلاتٍ ، وتشريعٍ وحضارةٍ...
فلمّا نزل القرآن الكريم أضاف إلى العربيّة ما لم يكن فيها من غنى في المُعجَم، وقوّة في التّعبير، وتوسّع في الدّلالات المجازيّة والاستعاريّة، واشتقاق وتوليد في الصّيغ الصّرفيّة، وتعريب للمولّد والدّخيل ... بمعنى آخَر: عندما نزل القرآن الكريمُ بلغة العرب فجّر ما بداخلِها من طاقات وبثّ فيها كلّ القدراتِ والإمكاناتِ التي تمكِّنُها من استيعابِ الخطابِ القرآنيّ، ولو لم ينزِلْ بها لَما تفجّرت ينابيعُها ولَما كُتبَ لها البقاء والاستمرارُ الذي تعرفُه الآنَ فقوّة العربيّة من قوّة الخطابِ القرآنيّ، ولا شكّ في ذلك، ولا فضلَ للغة على لغةٍ إلاّ بما تحملُه من قيم غنيّة وحضارةٍ شامخة وتشريع شامل يحلّ مشكلات البشرية في كلّ زمان ومكان، فلا فضل للغةٍ على لغةٍ إلاّ بِما يُسنِدُها ويدعَمُها من خارِجها، كما سبق أن قلنا، مثلما أنّه لا فضلَ لعربي على عجميّ ولا لأبيضَ على أسودَ إلاّ بالتّقوى.
هناك عمل دؤوب لتطبيق المناهج الحديثة
العلماء العرب، ماذا قدَّموا في حقل اللسانيات، وما السبب في ضعف نشاطهم؟
- الحقيقةُ أنّنا لا نستطيعُ أن نتحدّثَ عن العلوم العربيّة وصلتِها بميدان اللّسانيّات إلاّ إذا تطرّقْنا إلى أهمّيةِ تجديد مناهج النّظرِ إلى هذا التّراث؛ فقد أحدثت اللّسانياتُ فتحاً معرفيّا ضخماً في عالَم المعرِفَةِ، تجلّى في تجديد مناهجِ الدّراسة، وإدراجِ مفاهيمَ علميّة وأدواتٍ منهجيّة جديدةٍ من أحلِ إعادةِ قراءةِ هذا التّراثِ قراءةً واعيةً تكشفُ عن نقاطِ الالتقاءِ بعلم اللّغة الحديث وتبحثُ في إمكانِ صياغةِ لسانيّاتٍ عربيّة حديثة تستمدّ مادّتَها من المصادرِ اللغويّة الموروثَة، ومنهَجَها من النّظريّاتِ اللسانية الحديثةِ، إنّها لسانياتٌ عربيّة حديثةٌ تنطلقُ من التّراثِ لاستمدادِ المادّةِ الصّالحةِ للوصفِ والدّراسة، ومن النّظريّاتِ اللّسانيّة لاستمدادِ المنهجِ والتّصوّر وأدواتِ الوصفِ والتّفسير . وترِدُ في سياقِ هذه العمليّةِ الإحيائيّة التّحديثيّةِ ضرورةُ استثمارِ النّظرات العلميّة العميقةِ لعلمائنا العرب، للوصولِ إلى مرحلةِ منهجيّةٍ وهي مُحاوَلَةُ تَلَمُّسِ ما بَيْنَ الأَنْظارِ اللُّغَوِيَّةِ قَديمِها وحَديثِها مِنْ صِهْرٍ ونَسَبٍ وَ وَشائِجِ قُرْبى، فَرَضَتْها طَبيعَةُ التَّأَمُّلِ في الظَّواهِرِ اللُّغّوِيَّةِ، وَ أَمْلاها الانْتِسابُ إِلى هذا الْحَقْلِ اللُّغَوِيِّ ، الذي هُوَ حَقْلٌ بَشَرِيٌّ كُلّيّ شاملٌ لا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الظُّروفِ والأَحْوالِ، ولا يَسْتَغْني عَنْهُ الْمُتَكَلِّمونَ مَهْما تَكُنْ وَسائِلُ الاتِّصالِ وَ الْبَدائِلُ الْمُسْتَجَدَّةُ في مَيْدانِ التَّفَاهُمِ وَ التَّخاطُب .
وأعتقدُ أنّ العلماءَ العربَ القُدماءَ قد قدّموا مادّة علميّةً ضخمة في ميدانِ علم اللّغة، ولكنّ هذه المادّة تحتاج إلى إعادة الصّياغةِ وفقا لمبادئ اللسانيات الحديثة وشروطها في التّنظيرِ والنّمذجَة، ويبدو أنّ كثيراً منَ الباحثينَ اللّسانيينَ العرب يبذلونَ اليومَ جهوداً منهجيّة كبيرة لقراءة التّراثِ اللّغوي وإعادة تركيبِه وفقا للتّصوّرات اللسانيّة الحديثة.
جهود العرب اللغوية لا يمكن أن تغفل
هل حقا أكبر علماء اللغة تشومسكي استفاد من آراء سيبويه في نظرياته؟
* وإن لم يُصرّح بذلك، كما يقولُ بعض الباحثين، ولكنّ هذا الاحتمال يحتاج إلى دليل على كلّ حال.
دراسات كثيرة أجريت والقادم أفضل:
النظريات اللسانية النحوية هل تعالج قضية النحو العربي؟ وهل تضيف النظريات اللسانية طرقا جديدة لتعليم النحو العربي بدلا عن الطريقة التقليدية؟
يُمكن أن نتساءَل بطريقة أخرى: ما مكانة النّحو العربيّ من اللّسانيات الحديثة؟
- لا شكّ أنّ اللّسانيات قبل أن تنظرَ في نحو من الأنحاء التّقليدية كالنّحو العربي، قد استفادت – بمختلِف مذاهبِها ومناحيها – بطريقة أو بأخرى، من الأنحاء التّقليدية كالنّحو التّاريخيّ والنّحو المعياري والنّحو المقارن والنّحو العامّ والقياسي وربّما استفادت من النّحو العربي، استفادت من هذه الأنحاء في بناء نماذجِها وصياغة مفاهيمِها وأدواتِها في التّحليل اللساني، والمثال على هذه الاستفادة واضح في النّحو التّوليدي كما مرّ بنا آنفا، حتّى قيلَ إنّ النّحو التوليدي هو تركيب بين الأنحاء التقليدية والأنحاء البنيويّة التي ظهرت بعد دوسوسير، وقيلَ إنّه أخذ فكرةَ بناء (نحو كلّي) من (مدرسة بور رويال) في القرن السّابع عشر، وأخذَ (صَوْرَنَتَه) من الأنحاء البنيويّة)، ونظير ذلك استفادة (النّحو الوظيفي) من الأنحاء التقليدية في القول (بالوظائف النّحوية)، واستفادةُ (الدّلالة الحديثة) من (البلاغة القديمة)، واستفادة (التّداوليّات) من (فلسفة اللّغة والمنطق) وبعد مسألة الاستفادة يمكن أن نتحدّث عن حدود الاتّصال بين النّحو العربي والنّماذج اللّسانية المعاصرة، وبالضّبط يمكن أن نتحدّثَ عن إمكان استثمار أفكار النّحاة العرب القدماء ونظراتهم، وتوظيفِها في تطوير البحث اللّساني.
ولكن ينبغي مراعاة المفارقة والانفصال بين اللّغويات العربية القديمة واللّسانيات الحديثة؛ فالنّماذجُ اللّسانية المعاصرة تندرج في إطار نظريات مضبوطة ببرنامج علمي محدَّد الأهداف. أمّا اللغويات العربية القديمة فهي جمهرة من المعالَجاتِ اللغوية المتعدّدة المستويات، والمتفاوتة من حيث العمق في الوصف والتّحليل، والإجمال أو التفصيل، ولا بدّ من أخذ هذه الفروق بعين الاعتبار...
ولقد اجتهد كثير من اللسانيين العرب المعاصرينَ في تقديم مُعالجاتٍ لسانية للنّحو العربي خاصّةً وللتّراث اللغويّ والبلاغي والأصولي والكلامي عامّةً، وقدّموا قراءاتٍ لسانية واعية لهذا التّراث في ضوء ما يُناسبُه من نماذج لسانية حديثة. وانطلقوا في هذه القراءة من منهجيّة محدّدة، وإطار نظريّ يوحّد بين ظواهر الوصف والتحليل، من هذه القراءاتِ نجدُ النّحو الوظيفي التّداوليّ الذي عدّه المشتغلون عليه إطارا لسانيا صالحا لمقاربَة هذا التّراث واستكشاف النّسق النّظري العامّ الذي يؤطّر علومه جميعا على اختلاف مواضيعها وتعدد مصنفاتِها ورجالها، وخاصّة أنّ عوامل نشأتها ومصادرَها واحدة، وهذا ما يفرض على قارئ هذا التّراث أن يتناولَ علومَه لا على أنّها مستقلّ بعضُها عن بعض، ولكن على أساس اعتبارها خطابا متجانسا يستمدّ مفاهيمَه ومنهجه من جهاز نظريّ واحد – كما يقول أصحابُ هذه المقارَبَة (1) – يركّز على عناصر وظيفيّة تداوليّة رئيسة منها مقام الخطاب، ومنها مقاصد المتكلّم ونيّته من وراء الخطاب، ومنها أنّ وسيلة التّخاطب في التّراث الفكري العربي تجاوزت المفردات والجمل إلى النص باعتباره وحدة تواصليّةً متكاملة ينتظم أجزاءَها موضوع وغرض.
ومن اللسانيين العرب مَن اجتهَد في وضع نحو جديد للعربية المعاصرة وذلك من خلال إمكان التّطبيق للمبادئ النّظرية لنموذج لساني ما على اللغة العربية المعاصرة (2) أو على أجزاء منها، ويؤدّي هذا التّطبيق إلى تغيير الوضع اللّغويّ، وإعداد المصطلحات الفنية، وإعادة النّظر في أجهزة اللغة قصد تجديد التّعبير بها وإتاحة الفرصة للتّطويع اللّغوي، وإدماج مفاهيم حضارية وعلميّة جديدة، وتناول مشاكل التّعليم وتصميمه وبرمجتِه وتحقيق الأهداف المتوخّاة منه، ووضع الكتاب المدرسي، وتأليف المعاجم والكتب النّحويّة، واستثمار نتائج البحث اللّساني في تعليم اللغة العربية، للناطقين بها وبغيرِها، وتطبيق اللسانيات في تحليل أنواع الخطاب المختلفة، وتحليل الآثار الفني، وتحليل الظّواهر النّفسيّة والمَرَضية المتّصلة بالنّشاط الكلاميّ، ومعالَجَة النّصوص معالَجة آلية حاسوبيّة، إلى غيرِ ذلك من الميادين التّطبيقيّة...
وهكذا نجد أنّه قد أحدِثت طرقٌ جديدة في تعليم العربية منها المُقاربَة الوظيفيّة التّداوليّة، والمقاربة التّوليدية من خلال بعض نماذِجها التي تركّز على البنية السطحية والبنية العميقة والتّحويلات ...
ومعنى ذلك أنّ العربية لغة تتضمّن طاقات تعبيرية وتواصلية هائلة تمكّنها من أن تُعالَج بمقارباتٍ لسانية مختلفة تيسّر تعليمَها وإدماجَها في السياق العامّ للمعرفة البشرية
(1) انظر: (المَنْحى الوظيفيّ في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، د.أحمد المتوكّل، دار الأمان، الرّباط، 1427هـ- 2006م.
(2) اللسانيات واللغة العربية، د.عبد القادر الفاسي الفهري، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، المغرب، 1985م.